الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          بعد هذا التمهيد نقول : إن مسألة الكلام الإلهي كمسألة الرؤية فيما اختلف فيه من تأويل وتفويض ، اجتنابا من قوم للتعطيل ، ومن آخرين للتشبيه ، وإنما الفرق بينهما أن إثبات الكلام والتكليم لله - تعالى - صريح في القرآن المجيد في آيات متعددة لا تعارض بينها ، وأما رؤية الرب - تعالى - فربما قيل بادي الرأي إن آيات النفي فيها أصرح من آيات الإثبات كقوله - تعالى - : لن تراني وقوله - تعالى - : لا تدركه الأبصار ( 6 : 103 ) فهما أصرح دلالة على النفي من دلالة قوله - تعالى - : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ( 75 : 22 ، 23 ) على الإثبات ، فإن استعمال النظر بمعنى الانتظار كثير في القرآن وكلام العرب ، كقوله : ما ينظرون إلا صيحة واحدة ( 36 : 49 ) و هل ينظرون إلا تأويله ( 7 : 53 ) و هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ( 2 : 210 ) وثبت أنه استعمل بهذا المعنى متعديا بـ " إلى " ولذلك جعل بعضهم وجه الدلالة فيه على المعنى الآخر - وهو توجيه الباصرة إلى ما تراد رؤيته - أنه أسند إلى الوجوه وليس فيها ما يصحح إسناد النظر إليها إلا العيون البصارة ، وهو في الدقة كما ترى ، ولذلك اختلف في فهمها العلماء قبل هذه المذاهب ، فقد روى عبد بن حميد ، عن مجاهد تفسير ( ناظرة ) بقوله : تنتظر الثواب . قال الحافظ ابن حجر : سنده إلى مجاهد صحيح ، والجمهور يرون فهم مجاهد غير صحيح ، ولكن المعتزلة والخوارج والشيعة يرونه صحيحا ، أو ليس قطعي الدلالة بحيث يعد حجة على جميع المكلفين ، ويمتنع جعل تأويله عذرا للمخالفين ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعذر أصحابه في اختلاف فهمهم للنصوص ، ويقرهم على ما كان للاجتهاد فيه وجه وجيه ، كأخذ الآخرين بفحواه وهو عدم التخلف ، فصلى هؤلاء في الطريق ، وأدركوا معهبني قريظة في الموعد ، ولم يصل أولئك العصر إلا فيها ، وكما فهم بعضهم تحريم الخمر والميسر من آية البقرة التي رجحت إثمهما على منافعهما فتركوهما ، ولم يتركهما من لم يفهم ذلك وهم الأكثرون إلا بعد نزول النص القطعي باجتنابهما .

                          [ ص: 118 ] فإذا محصنا أسباب الخلاف من جهة النصوص وحدها وجدنا لكل من النفاة للرؤية والمثبتين لها ما يصح أن يكون له عذرا عند الآخر بمنع جريمة التفرق في الدين ، وجعل أهله أحزابا وشيعا متعادية غير مبالية بما ورد فيه من الوعيد الذي كاد يجعله كالكفر ما دام كل منهم يعلم أن الآخر يؤمن بأن جميع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الدين حق ، وأن الخلاف محصور في اختلاف الفهم .

                          وما كفر بعض علماء السلف بعض منكري الرؤية وغلاة التأويل لصفات الله - تعالى - وغيرها من النصوص إلا لاعتقادهم أنهم زنادقة لبسوا لباس الإسلام للإفساد ، وبث دعوة الإلحاد ، والتجرئة على رد نصوص القرآن والسنن التي تلقاها الصدر الأول بالقبول ، أو تحريفها بالتأويل عما فهموه أو عما ثبت عندهم بالعمل " إذ كانوا قد علموا أن بعض اليهود كعبد الله بن سبأ وبشر المريسي وبعض المجوس ، ومن سلائلهم جهم بن صفوان قد بثوا في المسلمين دعوة الكفر أو البدع الداعية إلى النفاق ، أو المفضية إلى الشقاق ، فالإمام أحمد كفر منكري الرؤية من هؤلاء لاعتقاده فيما نرى أنها صادرة عن زندقة ، لا لأن هذا الإنكار نفسه زندقة ، بحيث يرتد المسلم المؤمن بالنصوص كلها بقلبه ولسانه وعمله إذا فهم أن آيات نفي الرؤية هو الأصل المحكم الذي يرد إليه ما ورد من الآيات والأحاديث في إثباتها ؛ إذ الأول هو الموافق للعقل والنقل وهو التنزيه ، دون الآخر المستلزم عنده للتشبيه الواجب تأويله للجمع بين النصوص لا لرد شيء منها .

                          وأهل السنة يعذرون المتأول وكذا الجاحد لما ليس مجمعا عليه معلوما من الدين بالضرورة فلا يكفرونه بمخالفته للظواهر ، ولا يعدون البدعة من هذا القبيل مسقطة للعدالة في الرواية قالوا : إلا إذا كان صاحبها داعية ؛ لأن الدعوة إلى أمر ديني لم يؤثر عن الصدر الأول إحداث لفتنة وتفريق بين الموحدين كمسألة خلق القرآن ، فما القول في الدعوة إلى ما أثر عن الصدر الأول خلافه كالرؤية ؟ ثم ما القول في الدعوة إلى مخالفة النصوص القطعية التي لا تحتمل التأويل لغة ولا شرعا ، ومخالفة ما أجمع عليه المسلمون ، وهو معلوم من الدين بالضرورة كدعاوى الباطنية المعلومة ، ومثلها دعوى المسيحية القاديانية الهندية التي يلقب أهلها بالأحمدية ، أن رئيس نحلتهم ( ميرزا غلام أحمد القادياني ) هو المسيح المبشر بعودته إلى الدنيا في بعض الأحاديث ، وأنه كان يوحى إليه ، ونسخت فرضية الجهاد على لسانه ، فصار من الواجب على المسلمين عندهم أن يستسلموا للأجانب المستعبدين لهم ، السالبين لاستقلالهم المبطلين لشريعتهم ، ولا يجوز لشعب إسلامي عندهم أن يدافع بالقتال عن ملته ووطنه ، وإنما جعلالقادياني هذا من أصول دينه خدمة للإنكليز ، ولا يزال الباب مفتوحا عند أتباعه لمثل هذا بزعمهم أن وحي النبوة متصل في خلفائه وأتباعه ، فالقول بهذا خروج من ملة الإسلام [ ص: 119 ] لا تنفع معه صلاة ولا زكاة ولا حج ولا صيام ، وما أفضى إلى هذا الضلال المبين إلا التوسع في باب التأويل :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية