الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : وعشرون دلوا وسطا بموت نحو فأرة ) قال في التبيين أي ينزح عشرون إذا ماتت فيها فأرة ونحوها وقوله عشرون معطوف على البئر وفيه إشكال ، وهو أنه يصير معناه تنزح البئر وعشرون دلوا وأربعون وكله فيفسد المعنى ; لأنه يقتضي نزح البئر وعشرين دلوا وليس هذا بمراد ، وإنما المراد أن تنزح البئر إذا وقع فيها نجس ثم ذلك النجس ينقسم إلى ثلاثة أقسام منه ما يوجب نزح عشرين ومنه ما يوجب نزح أربعين ومنه ما يوجب نزح الجميع وليس نزح البئر مغايرا لهذه الثلاث حتى يعطف عليها ، وإنما هو تفسير وتقسيم لذلك النزح المبهم وليس هذا من باب عطف البعض على الكل لا يقال إنه أراد بالأول ما يوجب الجميع وبالمعطوف ما يوجب نزح البعض ; لأنه ذكر بعد ذلك ما يوجب نزح الجميع أيضا فلو كان مراده الجميع لما ذكر ثانيا لكونه تكرارا محضا ; ولأن الأول لا يجوز أن يحمل على نوع من هذه الأنواع الثلاثة لعدم الأولوية فبقي على إطلاقه إلى هنا كلام الزيلعي رحمه الله

                                                                                        وأقول : لا حاجة إلى هذه الإطالة مع إمكان حمل كلامه على وجه صحيح ، فإن قوله عشرون معطوف على البئر بمعنى ماء البئر كما تقدم والواو فيه كبقية المعطوفات بمعنى أو والتقدير ينزح ماء البئر كله بوقوع نجس غير حيوان أو ينزح عشرون دلوا من ماء البئر بموت نحو فأرة أو أربعون منه بنحو دجاجة أو كله بنحو شاة إلى آخره وبهذا علم أن قوله وتنزح البئر بوقوع نجس ليس مبهما بل المراد منه نجس غير حيوان اندفع به ما ذكره من لزوم التكرار لو أريد بالأول نزح الجميع ، فإنه أريد بالأول نزح الجميع لوقوع غير حيوان وأريد بالثاني نزح الجميع لوقوع حيوان مخصوص فلا تكرار وقوله ; ولأن الأول لا يجوز أن يحمل إلى آخره سلمناه لكن يمنع قوله فبقي على إطلاقه ; لأنه لا يلزم من انتفاء جواز حمله على الأنواع الثلاث بقاؤها مطلقا لجواز حمله على نوع رابع غير [ ص: 123 ] الثلاثة كما حملناه على النجس الذي ليس حيوانا ، وهو ليس واحدا من الأنواع .

                                                                                        واعلم أنه لا فرق بين أن تموت الفأرة في البئر أو خارجها وتلقى فيها وكذا سائر الحيوانات إلا الميت الذي تجوز الصلاة عليه كالمسلم المغسول أو الشهيد نعم في خزانة الفتاوى والفأرة اليابسة لا تنجس الماء ; لأن اليبس دباغة ا هـ .

                                                                                        ولا يخفى ضعفه ; لأنا قدمنا أن ما لا يحتمل الدباغة لا يطهر وأن اليبس ليس بدباغة ويدل عليه ما في الذخيرة أن الفأرة الميتة إذا كانت يابسة ، وهي في الخابية وجعل في الخابية الزيت فظهرت على رأس الخابية فالزيت نجس ا هـ .

                                                                                        ثم اعلم أن الواقع في البئر إما نجاسة أو حيوان وحكم النجاسة قد تقدم في قوله وتنزح البئر بوقوع نجس على ما أسلفناه والحيوان إما آدمي أو غيره وغير الآدمي إما نجس العين أو غيره وغير نجس العين إما مأكول اللحم أو غيره والكل إما إن أخرج حيا أو ميتا والميت إما منتفخ أو غيره فالآدمي إذا خرج حيا ولم يكن في بدنه نجاسة حقيقية أو حكمية ، وكان مستنجيا لم يفسد الماء ، وإن كان مسلما جنبا أو محدثا فانغمس بنية الغسل أو لطلب الدلو فقد قدم حكمه ، وإن كان كافرا روي عن أبي حنيفة أنه ينزح ماؤها ; لأن بدنه لا يخلو عن نجاسة حقيقة أو حكما ، وإن أخرج ميتا ، وكان مسلما وقع بعد الغسل لم يفسد الماء وإن كان قبله فسد والكافر يفسد قبل الغسل وبعده وغير الآدمي إن كان نجس العين كالخنزير والكلب على القول بأنه نجس العين نجس البئر مات أو لم يمت أصاب الماء فمه أو لم يصب وعلى القول بأن الكلب ليس بنجس العين لا ينجسه إذا لم يصل فمه إلى الماء ، وهو الأصح وقيل دبره منقلب إلى الخارج فلهذا يفسد الماء بخلاف غيره من الحيوانات

                                                                                        وأما سائر الحيوانات ، فإن علم ببدنه نجاسة تنجس الماء ، وإن لم يصل فمه إلى الماء وقيدنا بالعلم ; لأنهم قالوا في البقر ونحوه يخرج ولا يجب نزح شيء ، وإن كان الظاهر اشتمال بولها على أفخاذها لكن يحتمل طهارتها بأن سقطت عقب دخولها ماء كثيرا هذا مع أن الأصل الطهارة ، وإن لم يعلم ولم يصل فمه إلى الماء فإن كان مما يؤكل لحمه فلا يوجب التجنيس أصلا ، وإن كان مما لا يؤكل لحمه من السباع والطيور ففيه اختلاف المشايخ والأصح عدم التجنيس وكذلك في الحمار والبغل والصحيح أنه لا يصير الماء مشكوكا فيه وقيل ينزح ماء البئر كله ، وإن وصل لعابه فحكم الماء حكمه فيجب نزح الجميع إذا وصل لعاب البغل أو الحمار إلى الماء كذا في فتاوى قاضي خان وغيرهما لكن في المحيط ، ولو وقع سؤر الحمار في الماء يجوز التوضؤ به ما لم يغلب عليه ; لأنه طاهر غير طهور كالماء المستعمل عند محمد ا هـ .

                                                                                        وظاهر كلام صاحب الهداية في التجنيس أن معنى قولهم يجب نزح الجميع أنه لا لأجل النجاسة بل ; لأنه كان غير طهور ولا يجب النزح إذا وقع في البئر ما يكره سؤره ووصل لعابه إلى الماء لكن في فتاوى قاضي خان ينزح منها دلاء عشرة أو أكثر احتياطا وثقة وفي التبيين يستحب نزح الماء كله ولا يخفى ما فيه ، وهذا كله إذا خرج حيا

                                                                                        فإن مات وانتفخ أو تفسخ فالواجب نزح الجميع في الجميع ، وإن لم ينتفخ ولم يتفسخ فالمذكور في ظاهر الرواية أنه على ثلاث مراتب كما دل عليه كلام المصنف والقدوري وصاحب الهداية وغيرهم ففي الفأرة ونحوها عشرون أو ثلاثون وفي الدجاجة ونحوها أربعون أو خمسون أو ستون وفي الشاة ونحوها ينزح ماء البئر كله وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة جعله على خمس مراتب ففي الحلمة واحد الحلم وهي القراد الضخم العظيم والفأرة الصغيرة عشر دلاء وفي الفأرة الكبيرة عشرون وفي الحمامة ثلاثون وفي الدجاجة أربعون وفي الآدمي ماء البئر كله وقد قدمنا مسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار فذكر مشايخنا في كتبهم آثارا الأول عن أنس رضي الله عنه أنه قال في الفأرة ماتت في البئر وأخرجت من ساعتها ينزح منها عشرون دلوا .

                                                                                        الثاني : عن أبي سعيد الخدري أنه قال في الدجاجة إذا ماتت في البئر ينزح منها [ ص: 124 ] أربعون دلوا قال في الغاية لم يذكر أحد من أهل الحديث فيما علمته حديث أنس ، وإنما ذكره أصحابنا في كتب الفقه على عادتهم وفي فتح القدير ذكر مشايخنا ما عن أنس والخدري غير أن قصور نظرنا أخفاه عنا

                                                                                        وقال الشيخ علاء الدين إن الطحاوي رواهما من طرق وتعقبه تلميذه الإمام الزيلعي المخرج بأني لم أجدهما في شرح الآثار للطحاوي ولكنه أخرج عن حماد بن أبي سليمان أنه قال في دجاجة وقعت في البئر فماتت قال ينزح منها قدر أربعين دلوا أو خمسين .

                                                                                        وأجاب عنه المحقق السراج الهندي بأنه يجوز أن يكون الطحاوي ذكرهما في كتاب اختلاف العلماء له أو في أحكام القرآن له أو في كتاب آخر ولا يلزم من عدم الوجدان في الآثار عدم الوجود مطلقا الثالث حديث الزنجي في بئر زمزم وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى .

                                                                                        [ ص: 123 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 123 ] ( قوله : كالمسلم المغسول أو الشهيد ) قال في الشرنبلالية فيه نظر لما أن الدم الذي به غير طاهر في حق غيره إلا أن يحمل على ما إذا غسل عنه قبل الوقوع في البئر ( قوله : بأن سقطت ) أي النجاسة وضمير دخولها للبقر وماء بالنصب مفعول دخول ( قوله : فيجب نزح الجميع ) أقول : ليس في عبارة الخانية لفظة يجب بل قال ينزح جميع الماء نعم ظاهره الوجوب ومثل عبارة الخانية عبارة الحاوي القدسي ومنية المصلي وعزاه شارحها ابن أمير حاج إلى البدائع وكذا في الدرر وعزاه شارحها الشيخ إسماعيل إلى المبتغى ( قوله : وينزح منها عشرون دلوا ) والعصفورة ونحوها تعادل الفأرة في الجثة فأخذت حكمها والعشرون بطريق الإيجاب والثلاثون بطريق الاستحباب كذا في الهداية قال في النهاية : وهذا الوضع لمعنيين ذكرهما شيخ الإسلام في مبسوطه أحدهما أن السنة جاءت في رواية أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { قال في الفأرة إذا وقعت في البئر فماتت فيها ينزح منها عشرون دلوا أو ثلاثون } هكذا رواه أبو علي السمرقندي بإسناده وأو لأحد الشيئين ، وكان الأقل ثابتا بيقين ، وهو معنى الوجوب والأكثر يؤتى به لئلا [ ص: 124 ] يترك اللفظ المروي ، وإن كان مستغنى عنه في العمل وهو معنى الاستحباب .

                                                                                        والثاني : أن الرواة اختلفت فيها اختلافا كثيرا فروى ميسرة عن علي بن أبي طالب في الفأرة تموت في البئر ينزح منها دلاء وفي رواية سبع دلاء وفي رواية عشرون وفي رواية ثلاثون

                                                                                        وروي عن ابن عباس في الفأرة أربعون فإذا بعضهم أوجب في الفأرة عشرين وبعضهم أقل من عشرين ، وبعضهم أكثر من عشرين فأخذ علماؤنا بالعشرين ; لأنه الأوسط بين القليل والكثير فكان هو واجبا لتعينه ، وما وراءه استحبابا واعتراض صاحب النهاية على المعنى الثاني حيث قال فيه نظر ; لأن هذا المعنى موجود في الثلاثين فلم يتعين عشرون للوجوب ا هـ .

                                                                                        يقول الفقير هذا النظر ساقط ; لأن وجود هذا المعنى في ثلاثين ممنوع بل الثلاثين إنما هو الوسط بين الأوسط والأكثر لا بين القليل والكثير ، فإن الروايات الواردة في الفأرة خمس أحدها دلاء بدون التعيين فهي محمولة على الأقل المتيقن من صيغة الجمع ، وهو الثلاث والثانية سبع والثالثة عشرون والرابعة الثلاثون والخامسة الأربعون ولا يذهب عنك أن العشرين من بين هاتيك الروايات هو الأوسط بين القليل والكثير ; لأن القليل هو الثلاث والسبع والكثير هو الثلاثون والأربعون والعشرون أوسط بينهما تدبر حق التدبر يحصل لك نتيجة التفكر . ا هـ . فرائد .

                                                                                        ( قوله : المخرج ) أي صاحب كتاب تخريج أحاديث الهداية احترازا عن الإمام الزيلعي شارح الكنز ، فإنه غيره .




                                                                                        الخدمات العلمية