الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( خلاصة القول في مسألة الكلام الإلهي ) .

                          اضطرب المتكلمون في الكلام الإلهي كما اضطربوا في مسألة رؤيته تعالى ، واستوائه على عرشه وغيرهما من صفاته وشئونه فذهب الذين بنوا قواعد عقائدهم على اقتضاء التنزيه للتأويل إلى أن الكلام من صفات الأفعال كالخلق والرزق ( المعنى المصدري ) ولهذا قالوا إن القرآن مخلوق ، والحق الذي كان عليه السلف الصالح أن كلام الله - تعالى - صفة من صفاته الذاتية كالعلم وهو مثله لا يقتضي التشبيه ، إذ من العلوم بدليل النقل والعقل أن الخالق لا يشبه المخلوق كما [ ص: 155 ] تقدم شرحه في مسألة الرؤية فلا نعيده والعهد به قريب ، وإنما نكتب شيئا نقرب به المسألة من الأفهام ، بعد تفنيد تقاليد علم الكلام ، فإن أكثر متكلمي الأشعرية قد عقدوها تعقيدا شديدا بما حاولوا به التوفيق بين نصوص أئمة السنة ونظريات العقل بقولهم : إن الكلام نفسي ولفظي ، فالأول صفة قديمة قائمة بذاته تعالى ، والثاني عبارة عن ذلك المعنى القائم بالذات تؤدى باللفظ الذي يحصل بالصوت والحروف التي تكتب بالقلم ، وكل من الحروف والأصوات والألفاظ التي تكيفها الأصوات حادثة مخلوقة ، قالوا : وإنما منع السلف من التصريح بذلك ، وأنكروا على من قال: إن القرآن مخلوق ؛ لأن القرآن يسمى كلام الله بمعنى دلالته على صفة الله القديمة ، فلهذا الاشتراك يخشى أن يفضي القول بخلق كلمات القرآن الملفوظة والمكتوبة إلى القول بأن كلام الله - تعالى - الذي هو صفته القديمة مخلوق .

                          وهذه فلسفة مردودة مخالفة لمذهب السلف كأمثالها من تأويل سائر الصفات ، وهي غير معقولة المعنى أيضا ، فإن القرآن لا مدلول له إلا معاني مفرداته ، وجملة هذه المعاني منها القديم وهي معاني أسماء الله - تعالى - وصفاته ، وسائرها حادثة ، وقد ورد فيه ذكر " كلام الله " في مواضع لا مدلول لها إلا ما يسمونه هم الكلام اللفظي - كقوله - تعالى - : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ( 9 : 6 ) فالمراد بكلام الله القرآن قطعا ، إذ لا يمكن أن يقال إنهم يسمعون صفة الله - تعالى - ؛ القائمة بذاته ، وقوله في اليهود : وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ( 2 : 75 ) يعني التوراة ، وقوله في المخلفين من الأعراب : يريدون أن يبدلوا كلام الله ( 48 : 15 ) يعني وعده في القرآن فيما سبق في السورة ، إذ لا يمكن أن يقال إن هؤلاء يبدلون ، وأولئك يحرفون صفة الله - تعالى - .

                          وقد اغتر بهذه الفلسفة الكلامية الجماهير الكثيرون لصدورها عن بعض كبار النظار ، الذين ملأت شهرتهم الأقطار ، فأعجب الباحثون منهم بها ، وقلدهم الأكثرون فيها ، ورجع عنها أساطين المذهب بعد تمحيصها ومقابلتها بأقوال السلف المؤيدة بالنصوص ، فأكثر المتكلمين المستقلين المخلصين رجعوا إلى مذهب السلف في أواخر أعمارهم ، ولكن بقي عامة الأشعرية متبعين لما قرروه لهم من قبل ذلك في كتبهم ، كدأب الجماعات في كل ما يتخذونه مذهبا لهم ، على أن الرجوع كان في الأغلب التدريج والمزج بين التفويض والتأويل ، فلم يشعر به إلا الأفراد من أهل الدليل .

                          وقد أعجبني من كلام هؤلاء النظار المنيبين قول الإمام أبي محمد عبد الله الجويني والد إمام الحرمين في رسالة له في نصيحة المسلمين عند رجوعه إلى مذهب السلف في هذه المسألة وأخواتها التي يتأولها أصحابه الأشاعرة لتصريحه ورده على شيوخه قال : [ ص: 156 ] " إني كنت برهة من الدهر متحيرا في ثلاث مسائل : مسألة الصفات ، ومسألة الفوقية ، ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد ، وكنت متحيرا في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك من تأويل الصفات وتحريفها ، أو إمرارها والوقوف فيها ، أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل ، فأجد النصوص في كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ناطقة منبئة بحقائق هذه الصفات ، وكذلك في إثبات العلو والفوقية ، وكذلك في الحرف والصوت ، ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم منهم من يؤول الاستواء بالقهر والاستيلاء ، ويؤول النزول بنزول الأمر ، ويؤول اليدين بالقدرتين أو النعمتين ، ويؤول القدم بقدم صدق عند ربهم ، وأمثال ذلك ، ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله - تعالى - معنى قائما بالذات بلا حرف ولا صوت ، ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم .

                          " وممن ذهب إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة مثل طائفة من فقهاء الأشعرية الشافعيين ؛ لأني على مذهب الشافعي رضي الله - تعالى - عنه عرفت فرائض ديني وأحكامه فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال وهم شيوخي ، ولي فيهم الاعتقاد التام لفضلهم وعلمهم ، ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها ، وأجد الكدر والظلمة منها ، وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقرونا بها ، فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره ، المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره .

                          " وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول مخالفة الحصر والتشبيه ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني ، وأجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صرح بها مخبرا عن ربه واصفا له بها ، وأعلم بالاضطرار أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحضر في مجلسه الشريف العالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي الجافي ، ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص التي كان يصف ربه بها لا نصا ولا ظاهرا مما يصرفها عن حقائقها ويؤولها كما تأولها هؤلاء من مشايخي الفقهاء المتكلمين ، مثل تأويلهم الاستيلاء بالاستواء ، ونزول الأمر للنزول وغير ذلك ، ولم أجد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لربه من الفوقية واليدين وغيرها ، ولم يقل عنه مقالة تدل على أن لهذه الصفات معاني أخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها .

                          بعد هذا شرع الإمام الجويني في إيراد النصوص من الكتاب العزيز والأحاديث النبوية في مسألة علو الرب - تعالى - ، وهي معروفة ولبعض حفاظ السنة فيها مصنفات خاصة كابن قدامة والذهبي ، وكتاباهما مطبوعان عندنا ، ثم قال في المسألة من وجهة النظر العلمية : [ ص: 157 ] " ومن عرف هيئة العالم ومركزه من علم الهيئة ، وأنه ليس له إلا جهتا العلو والسفل ثم اعتقد بينونة خالقه عن العالم فمن لوازم البينة أن يكون فوقه ؛ لأن جميع جهات العالم فوق ، وليس السفل إلا المركز وهو الوسط " .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية