الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الأحداث التي كانت في عهد آدم في الدنيا

وكان أول ذلك قتل قابيل بن آدم أخاه هابيل ، وأهل العلم مختلفون في اسم قابيل ، فبعضهم يقول : قين ، وبعضهم يقول : قائين ، وبعضهم يقول قاين ، وبعضهم يقول : قابيل .

واختلفوا أيضا في سبب قتله ، فقيل : كان سببه أن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت له فيها بقابيل بن آدم وتوأمته ، فلم تجد عليهما وحما ، ولا وصبا ، ولم تجد عليهما طلقا حين ولدتهما ولم تر معهما دما لطهر الجنة ، فلما أكلا من الشجرة ، وهبطا إلى الأرض فاطمأنا بها تغشاها فحملت بهابيل ، وتوأمته ، فوجدت عليهما الوحم ، والوصب ، والطلق حين ولدتهما ، ورأت معهما الدم ، وكانت حواء فيما يذكرون لا تحمل إلا توأما ذكرا وأنثى ، فولدت حواء لآدم أربعين ولدا لصلبه من ذكر وأنثى في عشرين بطنا ، وكان الولد منهم أي أخواته شاء تزوج إلا توأمته التي تولد معه ، فإنها لا تحل له ، وذلك أنه لم يكن يومئذ نساء إلا أخواتهم ، وأمهم حواء ، فأمر آدم ابنه قابيل أن ينكح توأمة هابيل ، وأمر هابيل أن ينكح توأمة أخيه قابيل .

وقيل : بل كان آدم غائبا ، وكان لما أراد السير قال للسماء : احفظي ولدي بالأمانة ، فأبت ، وقال للأرض فأبت ، وللجبال فأبت ، وقال لقابيل ، فقال : نعم تذهب وترجع وستجده كما يسرك . فانطلق آدم فكان ما نذكره . [ ص: 39 ] وفيه قال الله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا . فلما قال آدم لقابيل وهابيل في معنى نكاح أختيهما ما قال لهما سلم هابيل لذلك ورضي به ، وأبى ذلك قابيل وكرهه تكرها عن أخت هابيل ورغب بأخته عن هابيل ، وقال : نحن من ولادة الجنة وهما من ولادة الأرض فأنا أحق بأختي .

وقال بعض أهل العلم : إن أخت قابيل كانت من أحسن الناس فضن بها على أخيه ، وأرادها لنفسه ، وإنهما لم يكونا من ولادة الجنة إنما كانا من ولادة الأرض ، والله أعلم .

فقال له أبوه آدم : يا بني ، إنها لا تحل لك ، فأبى أن يقبل ذلك من أبيه . فقال له أبوه : يا بني ، فقرب قربانا ، ويقرب أخوك هابيل قربانا ، فأيكما قبل الله قربانه فهو أحق بها . وكان قابيل على بذر الأرض وهابيل على رعاية الماشية ، فقرب قابيل قمحا ، وقرب هابيل أبكار غنمه . وقيل : قرب بقرة ، فأرسل الله نارا بيضاء فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله الله ، فلما قبل الله قربان هابيل ، وكان في ذلك القضاء له بأخت قابيل ، غضب قابيل ، وغلب عليه الكبر ، واستحوذ عليه الشيطان ، وقال : لأقتلنك حتى لا تنكح أختي . قال هابيل : إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إلى قوله فطوعت له نفسه قتل أخيه فاتبعه وهو في ماشيته فقتله ، فهما اللذان قص الله خبرهما في القرآن ، فقال : واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر إلى آخر القصة .

[ ص: 40 ] قال : فلما قتله سقط في يده ولم يدر كيف يواريه ، وذلك أنه كان فيما يزعمون أول قتيل من بني آدم ، فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين إلى قوله لمسرفون . فلما قتل أخاه قال الله تعالى : يا قابيل ، أين أخوك هابيل ؟ قال : لا أدري ، ما كنت عليه رقيبا ! فقال الله تعالى : إن صوت دم أخيك يناديني من الأرض الآن ، أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك ، فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعا تائها في الأرض . فقال قابيل : عظمت خطيئتي إن لم تغفرها .

قيل : كان قتله عند عقبة حراء . ثم نزل من الجبل آخذا بيد أخته قليما فهرب بها إلى عدن من اليمن .

قال ابن عباس : لما قتل أخاه أخذ بيد أخته ثم هبط بها من جبل نود إلى الحضيض ، فقال له آدم : اذهب فلا تزال مرعوبا لا تأمن من تراه . فكان لا يمر به أحد من ولده إلا رماه ، فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابن له ، فقال للأعمى ابنه : هذا أبوك قابيل فارمه ، فرمى الأعمى أباه قابيل فقتله ، فقال ابن الأعمى لأبيه : قتلت أباك ! فرفع الأعمى يده فلطم ابنه فمات . فقال : يا ويلتي قتلت أبي برميتي وبني بلطمتي .

ولما قتل هابيل كان عمره عشرين سنة ، وكان لقابيل يوم قتله خمس وعشرون سنة .

وقال الحسن : كان الرجلان اللذان ذكرهما الله تعالى في القرآن بقوله : واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق من بني إسرائيل ، ولم يكونا من بني آدم لصلبه ، وكان آدم أول من مات .

وقال أبو جعفر : الصحيح عندنا أنهما ابنا آدم لصلبه للحديث الصحيح عن [ ص: 41 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ، وذلك لأنه أول من سن القتل فبان لهذا أنهما لصلب آدم ، فإن القتل مازال بين بني آدم قبل بني إسرائيل . وفي هذا الحديث أنه أول من سن القتل ، ومن الدليل على أنه مات من ذرية آدم قبله ما ورد في تفسير قوله تعالى : هو الذي خلقكم من نفس واحدة إلى قوله : جعلا له شركاء فيما آتاهما .

عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، وغيرهم قالوا : كانت حواء تلد لآدم فتعبدهم ، أي تسميهم عبد الله ، وعبد الرحمن ، ونحو ذلك ، فيصيبهم الموت ، فأتاها إبليس فقال : لو سميتهما بغير هذه الأسماء لعاش ولدكما . فولدت ولدا فسمته عبد الحارث ، وهو اسم إبليس ، فنزلت : هو الذي خلقكم من نفس واحدة الآيات . وقد روي هذا المعنى مرفوعا .

قلت : إنما كان الله تعالى يميت أولادهم أولا ، وأحيا هذا المسمى بعبد الحارث امتحانا واختبارا ، وإن كان الله تعالى يعلم الأشياء بغير امتحان ، لكن علما لا يتعلق به الثواب والعقاب . ومن الدليل على أن القاتل والمقتول ابنا آدم لصلبه ما رواه العلماء عن علي بن أبي طالب أن آدم قال لما قتل هابيل :


تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح     تغير كل ذي طعم ولون
وقل بشاشة الوجه المليح



في أبيات غيرها .

[ ص: 42 ] وقد زعم أكثر علماء الفرس أن جيومرث هو آدم ، وزعم بعضهم أنه ابن آدم لصلبه من حواء ، وقالوا فيه أقوالا كثيرة يطول بذكرها الكتاب إذ كان قصدنا ذكر الملوك وأيامهم ، ولم يكن ذكر الاختلاف في نسب ملك من جنس ما أنشأنا له الكتاب ، فإن ذكرنا من ذلك شيئا فلتعريف من ذكرنا ليعرفه من لم يكن عارفا به .

وقد خالف علماء الفرس فيما قالوا من ذلك آخرون من غيرهم ممن زعم أنه آدم ، ووافق علماء الفرس على اسمه ، وخالفهم في عينه وصفته ، فزعم أن جيومرث الذي زعمت الفرس أنه آدم ، إنما هو حام بن يافث بن نوح ، وأنه كان معمرا سيدا نزل جبل دنباوند من جبال طبرستان من أرض المشرق ، وتملك بها وبفارس ، وعظم أمره وأمر ولده حتى ملكوا بابل ، وملكوا في بعض الأوقات الأقاليم كلها ، وابتنى جيومرث المدن ، والحصون ، وأعد السلاح ، واتخذ الحيل ، وتجبر في آخر أمره ، وتسمى بآدم ، وقال : من سماني بغيره قتلته ، وتزوج ثلاثين امرأة ، فكثر منهن نسله ، وأن ماري ابنه وماريانة أخته ممن كانا ولدا في آخر عمره ، فأعجب بهما وقدمهما ، فصار الملوك من نسلهما .

قال أبو جعفر : وإنما ذكرت من أمر جيومرث في هذا الموضع ما ذكرت لأنه لا تدافع بين علماء الأمم أنه أبو الفرس من العجم ، وإنما اختلفوا فيه هل هو آدم أبو البشر ، أم غيره على ما ذكرنا ؟ ومع ذلك فلأن ملكه وملك أولاده لم يزل منتظما على سياق متصل بأرض المشرق وجبالها إلى أن قتل يزدجرد بن شهريار بمرو أيام عثمان بن عفان ، والتاريخ على أسماء ملوكهم أسهل بيانا ، وأقرب إلى التحقيق منه على أعمار ملوك غيرهم من الأمم ، إذ لا يعلم أمة من الأمم الذين ينتسبون إلى آدم دامت لهم المملكة واتصل الملك لملوكهم يأخذه آخرهم عن أولهم ، وغابرهم عن سالفهم سواهم .

وأنا ذاكر ما انتهى إلينا من القول في عمر آدم ، وأعمار من بعده من ولده من الملوك ، والأنبياء ، وجيومرث أبي الفرس ، فأذكر ما اختلفوا فيه من أمرهم إلى الحال التي اجتمعوا [ ص: 43 ] عليها ، واتفقوا على ملك منهم في زمان بعينه أنه هو الملك في ذلك الزمان إن شاء الله .

وكان آدم مع ما أعطاه الله تعالى من ملك الأرض نبيا رسولا إلى ولده ، وأنزل الله عليه إحدى وعشرين صحيفة كتبهاآدم بيده علمه إياها جبرائيل .

وروى أبو ذر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا . قال : قلت : يا رسول الله ، كم الرسل من ذلك ؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا ، يعني كثيرا ، طيبا قال : قلت : من أولهم ؟ قال : آدم . قال : قلت : يا رسول الله ، وهو نبي مرسل ؟ قال : نعم ، خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، ثم سواه قبلا ، وكان ممن أنزل عليه تحريم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وحروف المعجم في إحدى وعشرين ورقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية