الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        تقدم أن فوات التشهد الأول يقتضي سجود السهو . فإذا نهض من الركعة الثانية ناسيا للتشهد ، أو جلس ، ولم يقرأ التشهد ، ونهض ناسيا ، ثم تذكر ، فتارة يتذكر بعد الانتصاب قائما ، وتارة قبله . فإن كان بعده ، لم تجز العودة إلى القعود على الصحيح المعروف . وفي وجه : يجوز العود ما لم يشرع في القراءة . والأولى : أن لا يعود . وهذا الوجه : شاذ منكر . فعلى الصحيح : إن عاد متعمدا عالما بتحريمه ، بطلت صلاته . وإن عاد ناسيا ، لم تبطل ، وعليه أن يقوم [ ص: 304 ] عند تذكره ويسجد للسهو . وإن عاد جاهلا بتحريمه ، فالأصح : أنه كالناسي . والثاني : كالعامد . هذا حكم المنفرد . والإمام في معناه ، فلا يرجع بعد الانتصاب . ولا يجوز للمأموم أن يتخلف للتشهد . فإن فعل بطلت صلاته . فإن نوى مفارقته ليتشهد ، جاز وكان مفارقا بعذر . ولو انتصب مع الإمام ، فعاد الإمام ، لم يجز للمأموم العود ، بل ينوي مفارقته . وهل يجوز أن ينتظره قائما حملا على أنه عاد ناسيا ؟ وجهان سبق مثلهما في التنحنح .

                                                                                                                                                                        قلت : فإن عاد المأموم مع الإمام ، عالما بالتحريم ، بطلت صلاته . وإن عاد ناسيا ، أو جاهلا ، لم تبطل . ولو قعد المأموم ، فانتصب الإمام ثم عاد ، لزم المأموم القيام ، لأنه توجه عليه بانتصاب الإمام . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو قعد الإمام للتشهد الأول ، وقام المأموم ناسيا ، أو نهضا ، فتذكر الإمام ، فعاد قبل الانتصاب وانتصب المأموم ، فثلاثة أوجه أصحها : يجب على المأموم العود إلى التشهد لمتابعة الإمام . فإن لم يعد ، بطلت صلاته ، صححه الشيخ أبو حامد ، ومتابعوه ، وقطع به صاحب ( التهذيب ) . والثاني : يحرم العود . والثالث : يجوز ، ولا يجب . ولو قام المأموم قاصدا ، فقد قطع إمام الحرمين : بأنه يحرم العود . كما لو ركع قبل الإمام ، أو رفع رأسه قبله عمدا ، يحرم العود . فإن عاد ، بطلت صلاته ، لأنه زاد ركنا عمدا . فلو فعل ذلك سهوا ، بأن سمع صوتا ، فظن أن الإمام ركع ، فركع ، فبان أنه لم يركع ، فقال إمام الحرمين : في جواز الركوع وجهان . وقال صاحب ( التهذيب ) وآخرون : في وجوب الرجوع وجهان . أحدهما : يجب . فإن لم يرجع ، بطلت صلاته . والأصح : أنه لا يجب ، بل يتخير بين الرجوع وعدمه . وللنزاع في صورة قصد القيام ، مجال ظاهر ، لأن أصحابنا العراقيين أطبقوا على أنه لو ركع قبل الإمام عمدا ، استحب له أن يرجع إلى القيام ليركع مع الإمام ، فجعلوه مستحبا .

                                                                                                                                                                        [ ص: 305 ] الحال الثاني : أن يتذكر قبل الانتصاب . فقال الشافعي ، والأصحاب رحمهم الله : يرجع إلى التشهد . والمراد بالانتصاب ، الاعتدال والاستواء ، هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور . وفي وجه : المراد به : أن يصير إلى حال هي أرفع من حد أقل الركوع . ثم إذا عاد قبل الانتصاب ، هل يسجد للسهو ؟ قولان . أظهرهما : لا يسجد . وقال كثير من الأصحاب ، منهم القفال : إن صار إلى القيام أقرب منه إلى القعود ، ثم عاد ، سجد . وإن كان إلى القعود أقرب ، أو كانت نسبته إليهما على السواء ، لم يسجد ، لأنه إذا صار إلى القيام أقرب فقد أتى بفعل يغير نظم الصلاة ، ( و ) لو تعمده في غير موضعه ، أبطل الصلاة . وقال الشيخ أبو محمد ، وآخرون : إن عاد قبل أن ينتهي إلى حد الراكعين لم يسجد . وإن عاد بعد الانتهاء إليه سجد . والمراد بحد الركوع أكمله لا أقله . بل لو قرب في ارتفاعه من حد أكمل الركوع ، ولم يبلغه ، فهو في حد الراكعين ، صرح به في ( النهاية ) . وهذه العبارة ، مع عبارة القفال ورفقته متقاربتان ، والأولى أوفى بالغرض ، وهي أظهر من إطلاق القولين ، وبها قطع في ( التهذيب ) وهي كالتوسط بين القولين ، وحملهما على الحالين . ثم جميع ما ذكرناه في الحالتين هو فيما إذا ترك التشهد الأول ، ونهض ناسيا . فأما إذا تعمد ذلك ، ثم عاد قبل الانتصاب والاعتدال ، فإن عاد بعد ما صار إلى القيام أقرب بطلت صلاته . وإن عاد قبله لم تبطل . ولو كان يصلي قاعدا ، فافتتح القراءة بعد الركعتين ، فإن كان على ظن أنه فرغ من التشهد ، وجاء وقت الثالثة ، لم يعد بعد ذلك إلى قراءة التشهد على الأصح . وإن سبق لسانه إلى القراءة وهو عالم بأنه لم يتشهد ، فله العود إلى قراءة التشهد . وترك القنوت يقاس بما ذكرناه في التشهد ، فإذا نسيه ، ثم تذكر بعد وضع الجبهة على الأرض ، لم يجز العود . وإن كان قبله ، فله العود . ثم إن عاد بعد بلوغه حد الراكعين ، سجد للسهو . وإن كان قبله ، فلا .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية