الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون هذا بيان مستأنف لتعليل ما تقدم من نفي امتيازه - صلى الله عليه وسلم - على البشر بملك النفع والضر من غير طرق الأسباب وسنن الله في الخلق - ونفي امتيازه عليهم بعلم الغيب ، عللها ببيان حصر امتيازه عليهم بالتبليغ عن الله عز وجل . والتبليغ قسمان : قسم مقترن بالتخويف من العقاب على الكفر والمعاصي وهو الإنذار ، وقسم مقترن بالترغيب في الثواب على الإيمان والطاعة ، وهو البشارة أو التبشير ، وكل منهما يوجه إلى جميع أمة الدعوة على الإطلاق والآيات فيه كثيرة ، ويوجه أيضا إلى من يؤمن ، وإلى من يصر على كفره وإجرامه مطلقا ، وإذا ذكر الفريقان جميعا في سياق واحد يخص الكافرون بالإنذار والمؤمنون الصالحون بالتبشير ، وقد ذكر في أول سورة الكهف الإنذار المطلق بالقرآن ، ثم تبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وإنذار متخذي الولد لله تعالى من الكافرين . ومن المقابلة بين الفريقين قوله تعالى في آخر سورة مريم : لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ( 19 : 97 ) وفي معناهما آيات أخرى في المقابلة كما ترى في أوائل سورتي البقرة والإسراء ، ولكن بدون ذكر لفظ الإنذار . والتبشير لا يوجه إلى الكافرين والمجرمين بلقبهم إلا بأسلوب التهكم ، كقوله تعالى : فبشرهم بعذاب أليم ( 3 : 21 ) على القول المشهور الذي عليه الجمهور ، وأما الإنذار فقد يوجه إلى المؤمنين المتقين على معنى أنهم هم الذين ينتفعون به ، كقوله في سورة فاطر : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ( 35 : 18 ) وقوله في سورة يس : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم ( 36 : 11 ) .

                          بناء على هذا قال بعض المفسرين إن قوله تعالى : لقوم يؤمنون متعلق بالوصفين ، على معنى أن المؤمنين هم الذين ينتفعون بإنذاره فيزيدهم خشية لله واتقاء لما يسخطه ، وبتبشيره فيزدادون شكرا له بعبادته وإقامة سننه ، وقال بعضهم : إنه متعلق بالثاني المتصل به ، ويدل على حذف مقابله فيما قبله . والتقدير : ما أنا إلا نذير للكافرين وبشير للمؤمنين ، ووجهه أن المقام مقام التبليغ ، وهنالك وجه ثالث وهو أن البشارة للمؤمنين خاصة لاتصالها بهم ، والإنذار عام لهم ولغيرهم ، وقد عرف وجهه مما فصلناه .

                          [ ص: 430 ] وقد ورد في مثل هذا من حصر وظيفة الرسول بالإنذار والتبشير بلفظيهما معا ، أو بأحدهما ، وبلفظ التبليغ الجامع لهما آيات كثيرة بعضها بالإثبات بعد النفي كما هنا وبعضها بإنما ، والحصر بكل منهما أقوى النصوص القطعية الدلالة ، ومع هذا التكرار والتوكيد كله يأبى غلاة الإطراء للرسل ولمن دون الرسل من الصالحين حقيقة أو توهما إلا أن يشركوهم مع الله سبحانه وتعالى في صفات ربوبيته وأفعاله .

                          قال تعالى في سورة سبأ : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 34 : 28 ) وقال في سورتي الإسراء والفرقان : وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقال في سورتي الأنعام والكهف : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين وقال في سورة النحل : فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ( 16 : 35 ) وفي سورة يس حكاية عن الرسل : وما علينا إلا البلاغ المبين ( 36 : 17 ) وفي سورتي النور والعنكبوت : وما على الرسول إلا البلاغ المبين .

                          فإن قيل : إن الحصر في هذه الآيات وأمثالها إضافي ; فإن من وظائف الرسل بيان الوحي والحكم بين الناس كما قال تعالى : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ( 4 : 105 ) وقال عز وجل : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ( 16 : 44 ) والبيان يكون بالأفعال كالأقوال ، بل الأفعال أقوى دلالة وأعصى على تأويل المحرفين . وكما قد أمر تعالى بتحكيم رسوله - صلى الله عليه وسلم - والخضوع لحكمه ، أمر بالتأسي به في هديه وسنته لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ( 33 : 21 ) .

                          قلنا : إن هذا لا ينافي الحصر الحقيقي ; لأن التبليغ لدين الله وشرعه لا يتم إلا بالعمل والحكم به وتنفيذ أحكامه ، فهو داخل في التبليغ وبيان الوحي .

                          وجملة القول : أن الرسل عليهم الصلاة والسلام عبيد الله تعالى مكرمون ، لا يشاركونه في صفاته ولا في أفعاله ، ولا سلطان لهم على التأثير في علمه ولا في تدبيره ، وهم بشر كسائر الناس لا يمتازون على البشر في خلقهم وصفاتهم وغرائزهم ، وإنما يمتازون باختصاص الله تعالى إياهم بوحيه ، واصطفائهم لتبليغ رسالاته لعباده ، وبما زكاهم وعصمهم فأهلهم لأن يكونوا أسوة حسنة وقدوة صالحة للناس في العمل بما جاءوا به عن الله تعالى من الصلاح والتقوى ومكارم الأخلاق .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية