الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم بين تعالى وجه سلامة من يستعيذ من وسوسة الشيطان ، لإزالة جهل من لم يعلمه أو من لم يفقهه فقال : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون الطوف والطواف والطيف بالشيء الاستدارة به أو حوله ، فهو واوي يأتي يقال : طاف يطوف ويطيف بالشيء ، كـ " قال وباع " وطاف الخيال بطيف طيفا : جاء في النوم ، وطيف الخيال ما يرى في النوم من مثال الشخص ، وأصله طيف بالتشديد فهو كميت ، وقد قرأ ابن كثير وأبو عمر والكسائي ويعقوب هنا " إذا مسهم طيف " والباقون " إذا مسهم طائف " والمعنى واحد ، ورسمه في المصحف الإمام ( طف ) كرسم ( ملك ) في سورة الفاتحة ، فتؤدى قراءة وزن فاعل من الكلمتين بمد الحرف الأول ، والمس في أصل اللغة كاللمس ومما يفترقان فيه أن المس يقال في كل ما ينال الإنسان من شر وأذى بخلاف اللمس ، فقد ذكر في التنزيل مس الضر والضراء والبأساء والسوء والشر والعذاب والكبر والقرح واللغوب والشيطان وطائف الشيطان ، ولم يذكر فيه مس الخير والنفع إلا في قوله في سورة المعارج إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ( 70 : 19 - 22 ) فقد ذكر الخير هنا في مقابلة الشر ، ولكن المقام مقام منع الخير لا فعله ، واستعمل المس والمسيس بمعنى الوقاع ، وهو مجاز مشهور كاستعماله في الجنون مجازا .

                          ومعنى الآية إن الذين اتقوا وهم خيار المؤمنين الذين وصفوا في أول سورة البقرة إذا مسهم أي ألم أو اتصل بهم طيف أو طائف من الشيطان ليحملهم بوسوسته على المعصية ، أو ينزغ بينهم لإيقاع البغضاء والتفرقة ( تذكروا ) أن هذا من عدوهم الشيطان وإغوائه ، وما أمر الله تعالى به في هذه الحال من الاستعاذة به ، والالتجاء إليه في الحفظ منه ، وقال بعضهم : تذكروا ما أمر الله تعالى به ونهى عنه ، وقال آخرون : تذكروا عقاب الله لمن أطاع الشيطان وعصى الرحمن ، وجزيل ثوابه لمن عصى الشيطان وأطاع الرحمن ، وقال بعضهم : تذكروا وعده ووعيده - ومآل الأقوال كلها واحد ، وهو يعمها - كما تقيده قاعدة حذف المفعول - فإذا هم مبصرون أي: فإذا هم أولو بصيرة وعلم يربأ بأنفسهم أن تطيع الشيطان ، فهو إنما تأخذ وسوسته الغافلين عن أنفسهم لا يحاسبونها على خواطرها ، الغافلين عن ربهم لا يراقبونه في أهوائها وأعمالها ، ولا شيء أقوى على طرد الشيطان من ذكر الله تعالى بالقلب ، ومراقبته في السر والجهر ، فذكر الله تعالى بأي نوع من أنواعه يقوي في النفس حب الحق ودواعي الخير ، ويضعف فيها الميل إلى الباطل والشر ، حتى لا يكون للشيطان مدخل إليها ، فهو إنما يزين لها بالباطل والشر بقدر استعدادها لأي نوع منهما . فإن وجد [ ص: 454 ] بالغفلة مدخلا إلى قلب المؤمن المتقي ، لا يلبث أن يشعر به; لأنه غريب عن نفسه ، ومتى شعر ذكر فأبصر فخنس الشيطان وابتعد عنه ، وإن أصاب منه غرة قبل تذكره تاب من قريب .

                          فمثل المؤمن في عدم تمكن الشيطان من إغوائه ، وإن تمكن من مسه ، كمثل المرء الصحيح المزاج القوي الجسم النظيف الثوب والبدن والمكان ، لا تجد الأمراض المفسدة للصحة; استعدادا لإفساد مزاجه وإصابته بالأمراض ، فهي تظل بعيدة عنه ، فإن مسه شيء منها بدخوله في معدته أو دمه فتكت بها نسم الصحة والعافية فحالت دون فتكها به - وهو ما يسمى في عرف الطب المناعة - وكذلك يكون قوي الروح ‌‌‌‌بالإيمان والتقوى غير مستعد لتأثير الشيطان في نفسه ، فهو يطوف بها يراقب غفلتها وعروض بعض الأهواء النفسية لها من شهوة أو غضب أو داعية حسد أو انتقام ، فمتى عرضت افترصها ، فلابس النفس وقواها فيها ، كما تلابس الحشرات القذرة أو جنة الأمراض الخفية ما يعرض من القذر للنظيف والضعف للقوي ، فإذا أهملها بالغفلة عنها فعلت فعلها ، وإذا تداركها نجا من ضررها ، ويحسن أن يعبر عن هذا بالحصانة ، فيقال : مناعة جسدية وحصانة نفسية أو روحية .

                          ذكرنا في الكلام على الشيطان من أوائل سورة البقرة أن الإنسان يشعر بقدر علمه بتنازع دواعي الخير والشر والحق والباطل في نفسه ، وأن لداعية الحق والخير ملكا يقويها ، ولداعية الباطل والشر شيطانا يقويها ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا بقوله : إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة : فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على ذلك . ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان ثم قرأ : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ( 2 : 268 ) رواه الترمذي والنسائي في الكبير وابن حبان عن ابن مسعود ، وعلم عليه السيوطي في الجامع الصغير بالصحة ، ولكن الترمذي قال : حسن غريب لا نعلمه مرفوعا إلا من حديث أبي الأحوص . وذكرنا هنالك بعض كلام الإمام الغزالي في هذا المقام ، وله فيه تفصيل حسن طويل في كتاب شرح عجائب القلب وغيره من الإحياء ، وللمحقق ابن القيم كتاب خاص في ذلك اسمه : ( إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان ) فمن قرأ أمثال هذه الكتب ، كان من وسوسة الشيطان على حذر .

                          وما زال الصالحون المتقون يراقبون خواطرهم ، ويجاهدون الوسواس الذي يلم بها ، ولهم حكايات في ذلك غريبة . حدثني الشيخ عبد الغني الرافعي الفقيه الصوفي ، أنه دخل في أيام سلوكه وهو في ميعة شبابه بستانا في طرابلس يعمل فيه نساء من نصارى لبنان ، فإذا بشابة جميلة منهن في مكان خلو ، فنزغ الشيطان بينه وبينها حتى هم بمباشرتها فتذكر [ ص: 455 ] قوله تعالى : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ( 17 : 32 ) فتردد وانكمش ثم ساورته ثورة الغلمة تهون له الأمر ، ولج به الوسواس : هلم هلم ، فقوي سلطان الآية في قلبه حتى صار قلبه يتلو بصوت يسمعه بأذنيه ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ( 17 : 32 ) قال : فجعلت أقول بيدي فوق صدري هكذا - يعني يمسحه كمن ينحي عنه شيئا - أحاول أسكت قلبي فلم أستطع إسكاته ، فتوليت عن المرأة ، وحفظني الله بذكر الآية من الفاحشة وله الحمد .

                          وأقول تحدثا بنعمة الله تعالى: إن الشيطان لم يبلغ مني غرة يدعوني فيها إلى الفاحشة قط ، فما ذكرته في مقصورتي في سياق حادثة امتحان امتحنني الله تعالى بها ، قد استمر بفضل الله تعالى من سن الشباب إلى سن الشيخوخة ، وأسأله بفضله حسن الخاتمة . وذلك قولي في فتاة بارعة الجمال طلبت مني أن أضع يدي على صدرها أرقيه :


                          ورب ملداء خميصة الحشا بهنانة ترنو بألحاظ اللأى     رقراقة شف زجاج وجهها
                          عن ذوب ياقوت وراءه جرى     خاشعة اللحاظ والطرف أتت
                          تلتمس الدعاء مني والرقى     أواه يا مولاي صدري ضاق عن
                          قلبي وما يفيض عنه من جوى     فضع عليه يدك التي بما
                          بارك فيها الله تبرئ الضنى     أنت فتى خاف مقام ربه
                          ما زال ينهى نفسه عن الهوى     لم يقترف فاحشة قط ولم
                          يعزم ولا هم بها ولا نوى     بغرة منها وحسن نية
                          في معزل تشهيه أقصى ما اشتهى     مما يمنيه به شيطانه
                          من حيث لا يطمع منه في خنا     لكنه استعصم راويا لها
                          ما أمر الله به وما نهى

                          وما أبرئ نفسي ( 12 : 53 ) مما دون كبائر الإثم والفواحش وهو اللمم إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ( 12 : 53 ) ولا أعد من اللمم حضور المراقص النسائية وملاهيها ، فأحمد الله تعالى أن نفسي لم تطالبني بحضورها يوما ما ، ولم يجد شيطان الجن من نفسي ميلا إليها فيزينها لي بوسوسته ، ولكن دعاني إليها بعض شياطين الإنس; لأجل اختبارها والنهي عنها على معرفة ، فأبيت وقلت للداعي : حسبك من شر سماعه ، على أنني رأيت نموذجا من أهونها عرضا لا قصدا إليها ، وذلك في بعض ملاهي تمثيل القصص التاريخية أو الوصفية في ليلة خيرية ، ولم أكن أعلم باستحداث ذلك فيها ، وأحمد الله تعالى أنني مقتها على غرابة الصنعة والزينة فيها ، وخرجت من المكان وآليت ألا أعود إليه ، [ ص: 456 ] فقد صارت هذه الأماكن بؤر فساد ، وكان فيها شيء من الأدب والعبرة ، وتمرين العوام على اللغة العربية الصحيحة التي تقرب من الفصيحة في الجملة ، ولم يكن يرى الناس فيها من منكرات الزي أكثر مما يرى في الأسواق والشوارع ، فأصبحت كالخمر ، إثمها أكبر من نفعها .

                          قد يقول من يظنون أن يوسف الصديق عليه السلام هم بالفاحشة : إنك قد فضلت نفسك عليه بزعمك أنك لم تهم وهو قد هم ، وأقول : إنه اختلفت الحال والداعية ، فإنه عليه السلام لم يهم بالفاحشة ، وإنما همت امرأة العزيز ، وهم هو بالانتقام ، وهو بطشها به بالقتل أو الضرب ، ودفاعه عن نفسه بالفعل ، وهذا هو المعتاد في مثل هذه الحال بمقتضى الطبع البشري ، وشواهده تقع دائما ، والعبارة تدل عليه دون الأول ، فإنه لا يقال هم بالشخص في مقام الخلاف والمغاضبة إلا إذا أريد الهم بالضرب أو ما هو مثله أو فوقه من الإيذاء ، ولا يقال إن المرأة همت بالرجل بالمعنى الآخر ; لأن الهم يتعلق بالعمل دون الشخص ، وهي في المباشرة مواتية لا عمل لها ، وما استبقا الباب إلا وهو فار من ثورة غضبها ، وهي مواثبة له تريد البطش به لإهانته إياها بمخالفتها وهو غلامها ، بعد أن أذلت نفسها ببذلها له . وما معنى قوله تعالى : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ( 12 : 24 ) إلا عصمته من البطش بها دفاعا عن نفسه وهو السوء ، وعصمته مما دعته إليه وهو الفحشاء ، ولولا الروايات الإسرائيلية في القصة لما خطر ببال المفسرين الراسخين في ذوق اللغة العربية غير هذا المعنى ، وكم لفتتهم تلك الروايات عما هو أوضح منها ، فتأولوا وتكلفوا; لتصحيح حمل الكلام عليها ؟ وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه .

                          الشيطان يزين لكل أحد من الناس ما هو مستعد له وقريب من أخلاقه وآرائه التي تربى عليها ، ومناسب لحاله وشعوره الذي يكون غالبا عليه ، فإذا أراد الصلاة في الليل ، وهو في حال نعاس أو فتور زين له النوم وترك الصلاة إلى وقت اليقظة والنشاط; لأجل إقامتها كما يرضى الله تعالى ! ! فإذا خالفه وشرع في الصلاة زين له بوسوسته العجلة والاختصار ، وقراءة السور القصار ، أو قراءة السورة من متوسط المفصل في ركعتين أو أكثر ، وإذا وجد منه جدا ونشاطا فيها فقد يزين له المبالغة في التطويل; ليسرع إليه الملل ، و " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل " كما رواه الشيخان في صحيحهما من حديث عائشة . وإذا كانت تربيته الدينية منفرة من الكبائر ، أغراه بمقدماتها ووسائلها من الصغائر ، وربما أفتاه بقوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ( 4 : 31 ) وليس المراد بهذا أن يحتقر الإنسان الصغائر ويتعمدها ويواظب عليها كالمستحل لها ، فإن مثل هذا قلما يسلم من التدرج منها إلى الكبائر ، ولكن المراد به اللمم ، وهو مما يلم به المرء إذا ما عرض له ، ولا يتعمق فيه ولا يصر عليه ، بل يلوم نفسه عليه ويتوب منه ، ( وقد بينت هذا المعنى [ ص: 457 ] في الكلام على التوبة من تفسير سورة النساء - ج 4 ) فإذا تاب تنتقل نفسه به من دركة ( النفس الأمارة بالسوء ) إلى درجة ( النفس اللوامة ) ولا يزال يجاهدها في مثله إلى أن يرتقي إلى درجة ( النفس المطمئنة ) فإذا هو أطاع النفس الأمارة بالسوء فإنها تهبط به إلى دركة الفحش والفجور ، وربما تهوي به إلى استحلال المعاصي ، وهو من الكفر ، كمن يدمن النظر بشهوة إلى بعض الحسان فينتقل من النظر إلى المغازلة ، ومن المغازلة إلى المهازلة ، ومن المهازلة إلى الملاعبة والمباعلة ، ومنها إلى المفاعلة . قال الشاعر العربي :


                          فلما رأتني رأرأت ثم أقبلت     تهازلني والهزل داعية العهر

                          وقال شاعر مصر في التنقل من كل حالة إلى ما بعدها :

                          نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء وقد استفتاني شاب مصري افتتن بفتاة شغفته حبا ، فكان يخلو بها - لما في مصر في هذا العهد من إباحة ذلك عند الكثيرين - فيتداعبان حتى يخشى على نفسه الفضيحة الكبرى ، ثم يتفارقان فيندم ويتوب ، ويعزم ألا يعود ، حتى إذا ما زارته نقض العزم ، ثم يفارقها فيبرمه ويؤكده باليمين ، ثم تغلبه على أمره فينكث ما أبرم ، ويحنث بما أقسم ، حتى قال أخيرا: لئن عدت لأكونن بريئا من دين الإسلام ، ولكنه عاد مغلوبا على أمره ، لا يملك تجاه سحر فاتنته شيئا من قوة إرادته ، فعظم هذا الحنث العظيم عليه ، وجاءني مستفتيا فيما وقع فيه ، وما يجب عليه ، فوعظته وأرشدته بما ألهمني الله تعالى ، ولم يعد إلي بعد ذلك ، فلا أدري كيف انتهت فتنته ، وقد حدث هذا منذ بضع عشرة سنة هبطت بها البلاد المصرية إلى الدركات السفلى من الإباحة .

                          الراجح أن هذا الشاب من أحد البيوت التي لا تزال فيها بقية من التربية الدينية ، وأخلاق العفة والحياء الموروثة ، وهذه التربية وهذه الأخلاق التي كان بها الشعب ذا وجود ممتاز مستقل في نفسه ، فطفق دعاة الإلحاد والزندقة وإباحة الشهوات يهدمونها باسم التجديد المدني ، والتقليد الأوربي ، ومنه وجوب السفور الذي يعنون به إباحة اختلاط النساء بالرجال ، ومعاشرة الفتيان للفتيات بحجة التمهيد للزواج عن تعارف وحب واختبار . . . وقد تفاقمت استباحة التهتك والفجور في هذه السنين إلى حد ينذر بهلاك هذه الأمة ، فالنساء يرقصن مع الرجال كاسيات عاريات ، ويسبحن معهن في شواطئ البحار ، وقلما تعاشر الفتاة العذراء شابا ، ولو بقصد الزواج عن تعرف وحب واختبار ، إلا وينتهي هذا الاختبار بفضيحة الافتراق ، ثم لا يكون الزواج مضمونا ، وإذا وقع لا يكون الوفاق غالبا ، ولا حب شهوة الصبا دائما ، بل يصير الاختبار لكل منهما عادة من العادات ، والتنقل من حبيب إلى آخر من أفتن اللذات ، وإن الله يبغض الذواقين والذواقات .

                          [ ص: 458 ] وقد استفتاني رجل في امرأة مسلمة متزوجة تختلف إلى بيت رجل غير مسلم ولا وطني ، تزوره بعد العصر في شهر رمضان ثلاثة أيام في الأسبوع ، فتمكث معه إلى قرب المغرب ، هل يجوز له أو يجب عليه إيذان بعلها بذلك ؟ ، وذكر أن سبب افتتان هذه المرأة الخبيثة بهذا الرجل الخبيث أنها عرفته عاملا في صيدلية قصدتها مرة لشراء دواء منها ، فتصباها حتى صارت تختلف إلى الصيدلية لأدنى حاجة ثم لغير حاجة إلخ .

                          فسدت العقائد والأخلاق وتركت العبادات ، وأبيحت الأعراض واستبيحت المحرمات وعبد الشيطان في معصية الرحمن ، وتوجد جمعيات من الرجال ومن النساء يزينون للناس كل هذه الفضائح والقبائح باسم التجديد والتمدن ، ولهم جرائد تنشر دعاية الإلحاد والزندقة ، والإباحة المطلقة ، إلا من بعض قيود قانون العقوبات في الظاهر دون الباطن . وإذا أنذرهم منذر ، وحذرهم من طاعة الشيطان محذر ، قالوا : وما الشيطان ؟ وما الدليل على وجود الشيطان ؟ فإن قلت لهم : إن أطباء الأرواح وأساتذة أمراض الاجتماع ، قد حذرونا بأمر الله خالق ما يرى وما لا يرى من نزغ الشيطان وتزيينه للفسوق والعصيان ، كما يحذرنا أطباء الأجساد من " ميكروبات " الأمراض ، فهل من مقتضى العقل أن نرد كلام هؤلاء الأطباء بحجة أننا لم نر تلك الميكروبات المرضية ، وألا نقبل كلامهم ، ولا نستعمل أدويتهم إلا بعد رؤية ما رأوا ، واختبار ما اختبروا ؟ ألم يقم الدليل على صدق الرسل عليهم الصلاة والسلام في التبليغ عن وحي الله عز وجل ؟ بلى وقد ثبت بالتجربة والاختبار أن من اتبعوهم صحت عقائدهم واستقامت أخلاقهم ، وصلحت أعمالهم ، وحفظت صحتهم وأعراضهم وأموالهم ، فتجربة معالجتهم لأمراض الأنفس والأرواح ، أثبت من تجربة معالجة الأطباء لأمراض الأجساد ، وقد ثبت بالمشاهدة والاختبار أيضا أن هؤلاء الماديين المنكرين لوجود الشياطين هم أشد فسادا وإفسادا ، ومنهم : سكيرون مقامرون ، زناة لوطيون ، كذابون منافقون ، مرتشون سراقون وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ( 6 : 112 ، 113 ) .

                          وفي مثل هؤلاء يقول الله تعالى في هذا السياق : وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون الغي: الفساد . والمد والإمداد الزيادة في الشيء من جنسه ، وقد قرأ نافع يمدونهم بضم الياء وكسر الميم من الإمداد ، والجمهور بفتح الياء وضم الميم من المد ، وقرئ في الشواذ يمادونهم بصيغة المشاركة ، والمد يستعمل في القرآن في الخلق والتكوين كقوله تعالى : وهو الذي مد الأرض ( 13 : 3 ) ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ( 25 : 45 ) والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ( 31 : 27 ) وفي مد الناس فيما يذم ويضر كقوله : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ( 19 : 75 ) [ ص: 459 ] ونمد له من العذاب مدا ( 19 : 79 ) ويمدهم في طغيانهم يعمهون ( 2 : 15 ) وأما الإمداد ففيما يحمد وينفع كقوله تعالى : أمدكم بأنعام وبنين ( 26 : 133 ) وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ( 17 : 6 ) كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك ( 17 : 20 ) ومنه إمداد النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالملائكة يثبتون قلوبهم في غزوة بدر ، وحملت قراءة نافع هنا على التهكم . والإقصار : التقصير ، وأقصر عن الأمر تركه وكف عنه وهو قادر عليه .

                          والمعنى مع سابقه : أن شأن المؤمنين المتقين إذا مسهم طائف من الشيطان . لحملهم على محاكاة الجاهلين والخوض معهم ، وعلى غير ذلك من المعاصي والفساد ، تذكروا فأبصروا فحذروا وسلموا ، وإن زلوا تابوا وأنابوا ، وأن إخوان الشياطين وهم الجاهلون غير المتقين يتمكن الشياطين من أهوائهم ، فيمدونهم في غيهم وفسادهم; لأنهم لا يذكرون الله تعالى إذا شعروا في أنفسهم بالنزوع إلى الشر والباطل والفساد في الأرض ، ولا يستعيذون به سبحانه من نزغ الشيطان ومسه فيبصروا ويتقوا - إما لأنهم لا يؤمنون بالله ، وإما لأنهم لا يؤمنون بأن للإنسان شيطانا من الجن يوسوس إليه ويغريه بالشر - ثم لا يقصرون ولا يكفون عن إغوائهم وإفسادهم ; فلذلك يصرون على الشرور والفساد لفقد الوازع النفسي والواعظ القلبي ، وفي هذا التفسير عود الضمير إلى الشيطان بالجمع; لأن المراد به الجنس لا الشخص كما تقدم ، وهو استعمال عربي معروف ، ومنه : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ( 2 : 257 ) وقيل : إن الضمير يعود على الجاهلين ، أي وإخوان أولئك الجاهلين من الإنس وهم شياطينهم يمدونهم في غيهم وفسادهم ، فيكونون أعوانا لشياطين الجن في ذلك كما بيناه في تفسير الآية التي قبل هذه

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية