الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( ومنها ) عدم التطليق بشرط ، والإضافة إلى وقت في المستقبل حتى لو قال الزوج بعد الطلاق إن دخلت الدار فقد راجعتك ، أو راجعتك إن دخلت الدار ، أو إن كلمت زيدا أو إذا جاء غد فقد راجعتك غدا أو رأس شهر كذا لم تصح الرجعة في قولهم جميعا ; لأن الرجعة استيفاء ملك النكاح ، فلا يحتمل التعليق بشرط ، والإضافة إلى وقت في المستقبل كما لا يحتملها إنشاء الملك ; ولأن الرجعة تتضمن انفساخ الطلاق في انعقاده سببا لزوال الملك ، ومنعه عن عمله في ذلك فإذا علقها بشرط أو أضافها إلى وقت في المستقبل فقد استبقى الطلاق إلى غاية ، واستبقاء الطلاق إلى غاية يكون تأبيدا له إذ هو لا يحتمل التوقيت كما إذا قال لامرأته أنت طالق يوما أو شهرا أو سنة أنه لا يصح التوقيت ، ويتأبد الطلاق ، فلا تصح الرجعة ، هذا إذا أنشأ الرجعة ، فأما إذا أخبر عن الرجعة في الزمن الماضي بأن قال : كنت راجعتك أمس فإن صدقته المرأة فقد ثبتت الرجعة ، سواء قال ذلك في العدة أو بعد انقضاء العدة بعد أن كانت المرأة في العدة أمس .

                                                                                                                                وإن كذبته فإن قال ذلك في العدة فالقول قوله ; لأنه أخبر عما يملك إن شاءه في الحال ; لأن الزوج يملك الرجعة في الحال ، ومن أخبر عن أمر يملك إن شاءه في الحال يصدق فيه .

                                                                                                                                إذ لو لم يصدق ينشئه للحال ، فلا يفيد التكذيب فصار كالوكيل قبل العزل إذا قال بعته أمس ، وإن قال بعد انقضاء العدة فالقول قولها ; لأنه أخبر عما لا يملك إنشاءه في الحال ; لأنه لا يملك الرجعة بعد انقضاء العدة فصار كالوكيل بعد العزل إذا قال قد بعت ، وكذبه الموكل ولا يمين عليها في قول أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف ، ومحمد تستحلف .

                                                                                                                                وهذه من المسائل المعدودة التي لا يجري فيها الاستحلاف عند أبي حنيفة نذكرها في كتاب الدعوى فإن أقام الزوج بينة قبلت بينته ، وتثبت الرجعة ; لأن الشهادة قامت على الرجعة في العدة فتسمع ولو كانت المطلقة أمة الغير فقال زوجها - بعد انقضاء العدة - كنت راجعتك ، وكذبته الأمة وصدقه المولى فالقول قولها عند أبي حنيفة ولا تثبت الرجعة ، وعندهما القول قول الزوج ، والمولى ، وتثبت الرجعة ; لأنها ملك المولى ، ، ولأبي حنيفة أن انقضاء عدتها إخبار منها عن حيضها ، وذلك إليها لا إلى المولى كالحرة ، فإن قال الزوج لها : قد راجعتك ، فقالت - مجيبة له : قد انقضت عدتي فالقول قولها عند أبي حنيفة مع يمينها .

                                                                                                                                وقال أبو يوسف ، ومحمد : القول قول الزوج ، ، وأجمعوا على أنها لو سكتت [ ص: 186 ] ساعة ثم قالت : انقضت عدتي - يكون القول قول الزوج ، ولا خلاف أيضا في أنها إذا بدأت فقالت : انقضت عدتي فقال الزوج - مجيبا لها موصولا بكلامها : راجعتك يكون القول قولها ; وجه قولهما أن قول الزوج راجعتك وقع رجعة صحيحة لقيام العدة من حيث الظاهر فكان القول قول المرأة انقضت عدتي إخبارا عن انقضاء العدة ولا عدة لبطلانها بالرجعة ، فلا يسمع ، كما لو سكتت ساعة ثم قالت : انقضت عدتي ; ولأن قولها " انقضت عدتي " إن كان إخبارا عن انقضاء العدة في زمان متقدم على قول الزوج - لا يقبل منها بالإجماع ، كما لو أسندت الخبر عن الانقضاء إليه نصا بأن قالت : كانت عدتي قد انقضت قبل رجعتك ; لأنها متهمة في التأخير في الإخبار ، وإن كان ذلك إخبارا عن انقضاء العدة في زمان مقارن لقول الزوج فهذا نادر ، فلا يقبل قولها .

                                                                                                                                ، ولأبي حنيفة أن المرأة أمينة في إخبارها عن انقضاء العدة فإن الشرع ائتمنها في هذا الباب ; قال الله تعالى { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } قيل في التفسير : إنه الحيض ، والحبل نهاهن - سبحانه ، وتعالى - عن الكتمان ، والنهي عن الكتمان أمر بالإظهار ، إذ النهي عن الشيء أمر بضده ، والأمر بالإظهار أمر بالقبول لتظهر فائدة الإظهار فلزم قبول قولها ، وخبرها بانقضاء العدة ، ومن ضرورة قبول الإخبار بانقضاء العدة حلها للأزواج ، ثم إن كانت عدتها انقضت قبل قول الزوج راجعتك - فقوله راجعتك يقع بعد انقضاء عدتها ، فلا يصح ، وإن كانت انقضت حال قوله راجعتك فيقع حال قوله راجعتك حال انقضاء العدة ، وكما لا تصح الرجعة بعد انقضاء العدة لا تصح حال انقضائها ; لأن العدة حال انقضائها منقضية فكان ذلك رجعة لمنقضية العدة ، فلا تصح ، فإن قيل يحتمل أنها انقضت حال إخبارها عن الانقضاء ، وإخبارها متأخر عن قوله راجعتك فكان انقضاء العدة متأخرا عنه ضرورة فتصح الرجعة فالجواب إذا احتمل ما قلنا واحتمل ما قلتم وقع الشك في صحة الرجعة ، ، والأصل أن ما لم يكن ثابتا إذا وقع الشك في ثبوته - لا يثبت مع الشك ، والاحتمال خصوصا فيما يحتاط فيه ولا سيما إذا كان جهة الفساد آكد ، وههنا جهة الفساد آكد ; لأنها تصح من وجه ، وتفسد من وجهين فالأولى أن لا يصح والله - عز وجل - الموفق ثم عند أبي حنيفة تستحلف ، وإذا نكلت يقضى بالرجعة ، وهذا يشكل على أصله ; لأن الاستحلاف للنكول ، والنكول بدل عنده ، والرجعة لا تحتمل البدل لكن الاستحلاف قد يكون للنكول ليقضى به وقد يكون لا للنكول بل لنفي التهمة بالحلف .

                                                                                                                                ألا ترى أنه يستحلف عنده فيما لا يقضى بالنكول أصلا كما في دعوى القصاص في النفس نفيا للتهمة ، والمرأة ، وإن كانت أمينة لكن الأمين قد يستحلف لنفي التهمة بالحلف فإذا نكلت فقد تحققت التهمة فلم يبق قولها حجة فبقيت الرجعة على حالها حكما لاستصحاب الحال لعدم دليل الزوال ; لأنه جعل نكولها بدلا مع ما أنه يمكن تحقيق معنى البدل ههنا ; لما ذكرنا أنها بالنكول صارت متهمة فخرج قولها من أن يكون حجة للتهمة فتبقى العدة ، وأثرها في المنع من الأزواج ، والسكون في منزل الزوج فقط ، ثم يقضى بالرجعة حكما لاستصحاب الحال ; لأنها بإخبارها بانقضاء عدتها حلت للأزواج ، وإذا نكلت فقد بدلت الامتناع من الأزواج ، والسكون في منزل الزوج ، وهذا معنى يحتمل البدل ، ومنها عدم شرط الخيار حتى لو شرط الخيار في الرجعة لم يصح ; لأنها استبقاء النكاح ، فلا يحتمل شرط الخيار كما لا يحتمل الإنشاء .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية