الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ولو قال عليه غضب الله أو سخطه أو لعنته إن فعل كذا لم يكن يمينا لأنه دعاء على نفسه بالعذاب والعقوبة والطرد عن الرحمة فلا يكون حالفا كما لو قال عليه عذاب الله وعقابه وبعده عن رحمته ومن مشايخنا بالعراق من قال في تخريجه القسم بالصفات : أن الصفات على ضربين صفة للذات وصفة للفعل وفصل بينهما بالنفي والإثبات وهو أن ما يثبت ولا ينفى فهو صفة للذات كالعلم والقدرة ونحوهما وما يثبت وينفى فهو صفة الفعل كالتكوين والإحياء والرزق ونحو ذلك ، وجعل الرحمة والغضب من صفات الفعل فجعل صفة الذات قديمة وصفة الفعل حادثة فقال الحلف بصفة الذات يكون حلفا بالله فيكون يمينا ، والحلف بصفة الفعل يكون حلفا بغير الله تعالى فلا يكون يمينا والقول بحدوث صفات الفعل مذهب المعتزلة والأشعرية إلا أنهم اختلفوا في الحد الفاصل بين الصفتين ففصلت المعتزلة بما ذكره هذا القائل من النفي والإثبات والأشعرية فصلت بلزوم النقيصة وعدم اللزوم وهو أنه ما يلزم بنفيه نقيصة فهو من صفات الذات وما لا يلزم بنفيه نقيصة فهو من صفات الفعل مع اتفاق الفريقين على حدوث صفات الفعل .

                                                                                                                                وإنما اختلفت عباراتهم في التحديد لأجل الكلام ، فكلام الله تعالى محدث عند المعتزلة لأنه ينفى ويثبت فكان من صفات الفعل فكان حادثا وعند الأشعرية أزلي لأنه يلزم بنفيه نقيصة فكان من صفات الذات فكان قديما ، ومذهبنا وهو مذهب أهل السنة والجماعة أن صفات الله أزلية والله تعالى موصوف بها في الأزل سواء كانت راجعة إلى الذات أو إلى الفعل فهذا التخريج وقع معدولا به عن مذهب أهل السنة والجماعة وإنما الطريقة الصحيحة والحجة المستقيمة في تخريج هذا النوع من المسائل ما سلكنا - والله تعالى الموفق للسداد والهادي إلى سبيل الرشاد - وهذا الذي ذكرنا إذا ذكر اسم الله تعالى في القسم مرة واحدة فأما إذا كرر فجملة الكلام فيه أن الأمر لا يخلو إما أن ذكر المقسم به وهو اسم الله تعالى ولم يذكر المقسم عليه حتى ذكر اسم الله - تعالى ثانيا ثم ذكر المقسم عليه وأما إن ذكرهما جميعا ثم أعادهما جميعا وكل ذلك لا يخلو من أن يكون بحرف العطف أو يكون بدونه .

                                                                                                                                فإن ذكر اسم الله تعالى ولم يذكر المقسم عليه حتى كرر اسم الله - تعالى - ثم ذكر المقسم عليه فإن لم يدخل بين الاسمين حرف العطف كان يمينا واحدة بلا خلاف سواء كان الاسم مختلفا أو متفقا فالمختلف نحو أن يقول والله الرحمن ما فعلت كذا وكذا لأنه لم يذكر حرف العطف ، والثاني يصلح صفة للأول علم أنه أراد به الصفة فيكون حالفا بذات موصوف لا باسم الذات على حدة وباسم الصفة على حدة ، والمتفق نحو أن يقول : الله والله ما فعلت كذا لأن الثاني لا يصلح نعتا للأول ويصلح تكريرا وتأكيدا له فيكون يمينا واحدة إلا أن ينوي به يمينين ويصير قوله : الله ابتداء يمين بحذف حرف القسم وأنه قسم صحيح على ما بينا فيما تقدم .

                                                                                                                                وإن أدخل بين القسمين حرف عطف بأن قال : والله والرحمن لا أفعل كذا ، ذكر محمد في الجامع أنهما يمينان ، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة ، أنه يكون يمينا واحدة وبه أخذ زفر وقد روي هذا أيضا عن أبي يوسف في غير رواية الأصول .

                                                                                                                                وجه رواية المذكور في الجامع أنه لما عطف أحد الاسمين على الآخر فكان الثاني غير الأول لأن المعطوف غير المعطوف عليه فكان كل واحد منهما يمينا على حدة بخلاف ما إذا لم يعطف لأنه إذا لم يعطف أحدهما على الآخر يجعل الثاني صفة للأول لأنه يصلح صفة لأن الاسم يختلف ولهذا يستحلف القاضي بالأسماء والصفات من غير حرف العطف فيقول والله الرحمن الرحيم الطالب المدرك ولا يجوز أن يستحلف مع حرف العطف لأنه ليس على المدعى عليه إلا يمين واحدة .

                                                                                                                                وجه رواية [ ص: 10 ] الحسن أن حرف العطف قد يستعمل للاستئناف وقد يستعمل للصفة فإنه يقال فلان العالم والزاهد والجواد والشجاع فاحتمل المغايرة واحتمل الصفة فلا تثبت يمين أخرى مع الشك والحاصل أن أهل اللغة اختلفوا في هذه المسألة في أن هذا يكون يمينا واحدة أو يكون يمينين ، ولقب المسألة أن إدخال القسم على القسم قبل تمام الكلام هل يجوز ؟ قال بعضهم : لا يجوز وهو قول أبي علي الفسوي والخليل حتى حكى سيبويه عن الخليل أن قوله - عز وجل - { والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى } يمين واحدة .

                                                                                                                                وقال بعضهم : يجوز وهو قول الزجاج والفراء حتى قال الزجاج إن قوله - عز وجل - { ص } قسم ، وقوله - عز وجل - { والقرآن ذي الذكر } قسم آخر ، والحجج وتعريف ترجيح أحد القولين على الآخر تعرف في كتب النحو ، وقد قيل في ترجيح القول الأول على الثاني إنا إذا جعلناهما يمينا واحدة لا نحتاج إلى إدراج جواب آخر بل يصير قوله لا أفعل مقسما عليه بالاسمين جميعا ولو جعلنا كل واحد منهما قسما على حدة لاحتجنا إلى إدراج ذكر المقسم عليه لأحد الاسمين فيصير كأنه قال والله والله لا أفعل كذا فعلى قياس ما ذكر محمد في الجامع يكون يمينين ، وروى محمد في النوادر أنه يمين واحدة كأنه استحسن ، وحمله على التكرار لتعارف الناس ، وهكذا ذكر في المنتقى عن محمد أنه إذا قال والله والله والله لا أفعل كذا القياس أن يكون ثلاثة أيمان بمنزلة قوله والله والرحمن والرحيم وفيه قبح وينبغي في الاستحسان أن يكون يمينا واحدة هكذا ذكر ، ولو قال والله والله لا أفعل كذا ذكر محمد أن القياس أن يكون عليه كفارتان ولكنى أستحسن فأجعل عليه كفارة واحدة وهذا كله في الاسم المتفق ، ترك محمد القياس وأخذ بالاستحسان لمكان العرف لما زعم أن معاني كلام الناس عليه ، هذا إذا ذكر المقسم به ولم يذكر ، المقسم عليه حتى ذكر اسم الله ثانيا ، .

                                                                                                                                فأما إذا ذكرهما جميعا ثم أعادهما فإن كان بحرف العطف بأن قال والله لا أفعل كذا والرحمن لا أفعل كذا أو قال والله لا أفعل كذا والله لا أفعل كذا فلا شك أنهما يمينان سواء كان ذلك في مجلسين أو في مجلس واحد حتى لو فعل كان عليه كفارتان وكذا لو أعادهما بدون حرف العطف بأن قال والله لا أفعل كذا وقال والله لا أفعل كذا لأنه لما أعاد المقسم عليه مع الاسم الثاني علم أنه أراد به يمينا أخرى إذ لو أراد الصفة أو التأكيد لما أعاد المقسم عليه ، ولو قال والله لا أفعل كذا أو قال والله لا أفعل كذا .

                                                                                                                                وقال أردت بالثاني الخبر عن الأول ذكر الكرخي أنه يصدق لأن الحكم المتعلق باليمين بالله تعالى هو وجوب الكفارة وأنه أمر بينه وبين الله تعالى ولفظه محتمل في الجملة وإن كان خلاف الظاهر فكان مصدقا فيما بينه وبين الله - عز وجل - وروي عن أبي حنيفة أنه لا يصدق فإن المعلى روى عن أبي يوسف أنه قال : في رجل حلف في مقعد واحد بأربعة أيمان أو أكثر أو بأقل فقال أبو يوسف : سألت أبا حنيفة عن ذلك فقال لكل يمين كفارة ، ومقعد واحد ومقاعد مختلفة واحد فإن قال : عنى بالثانية الأولى لم يصدق في اليمين بالله تعالى ويصدق في اليمين بالحج والعمرة والفدية وكل يمين قال فيها علي كذا والفرق أن الواجب في اليمين القرب في لفظ الحالف ; لأن لفظه يدل على الوجوب وهو قوله علي كذا وصيغة هذا صيغة الخبر فإذا أراد بالثانية الخبر عن الأول صح بخلاف اليمين بالله تعالى فإن الواجب في اليمين بالله تعالى ليس في لفظ الحالف لأن لفظه لا يدل على الوجوب وإنما يجب بحرمة اسم الله وكل يمين منفردة بالاسم فينفرد بحكمها فلا يصدق أنه أراد بالثانية الأولى .

                                                                                                                                وروي عن محمد أنه قال في رجل : قال : هو يهودي إن فعل كذا وهو نصراني إن فعل كذا وهو مجوسي إن فعل كذا وهو مشرك إن فعل كذا لشيء واحدقال : عليه لكل شيء من ذلك يمين .

                                                                                                                                ولو قال : هو يهودي هو نصراني هو مجوسي هو مشرك فهو يمين واحدة وهذا على الأصل الذي ذكرنا أنه إذا ذكر المقسم به مع المقسم عليه ثم أعاده فالثاني غير الأول في قولهم جميعا وإذا ذكر المقسم به وكرره من غير حرف العطف فهو يمين واحدة في قولهم جميعا .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية