الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما سبب وجوب الكفارة فلا خلاف في أن الكفارة لا تجب إلا بعد وجود العود والظهار لقوله عز وجل { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } غير أنه اختلف في العود .

                                                                                                                                قال أصحاب الظواهر هو أن يكرر لفظ الظهار ، وقال الشافعي : هو إمساك المرأة على النكاح بعد [ ص: 236 ] الظهار وهو أن يسكت عن طلاقها عقيب الظهار مقدار ما يمكنه طلاقها فيه إذا أمسكها على النكاح عقيب الظهار مقدار ما يمكنه طلاقها فيه فلم يطلقها فقد وجبت عليه الكفارة على وجه لا يحتمل السقوط بعد ذلك سواء غابت أو ماتت .

                                                                                                                                وإذا غاب فسواء طلقها أو لم يطلقها راجعها أو لم يراجعها ولو طلقها عقيب الظهار بلا فصل يبطل الظهار فلا تجب الكفارة لعدم إمساك المرأة عقيب الظهار ، وقال أصحابنا : العود هو العزم على وطئها عزما مؤكدا حتى لو عزم ثم بدا له في أن يطأها لا كفارة عليه لعدم العزم المؤكد لا أنه وجبت الكفارة بنفس العزم ثم سقطت كما قال بعضهم ; لأن الكفارة بعد سقوطها لا تعود إلا بسبب جديد .

                                                                                                                                وجه قول أصحاب الظواهر التمسك بظاهر لفظة العود ; لأن العود في القول عبارة عن تكراره قال الله تعالى { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه } فكان معنى قوله { ثم يعودون لما قالوا } أي يرجعون إلى القول الأول فيكررونه .

                                                                                                                                وجه قول الشافعي أن قوله تعالى { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل } يقتضي وجوب الكفارة بعد العود وذلك فيما قلنا لا فيما قلتم ; لأن عندكم لا تجب الكفارة وإنما يحرم الوطء إلى أن يؤدي الكفارة فترفع الحرمة وهذا خلاف النص .

                                                                                                                                ولنا أن قول القائل : قال فلان كذا ثم عاد ، قال في اللغة يحتمل أن يكون معناه عاد إلى ما قال وفيما قال أي كرره ، ويحتمل أن يكون معناه عاد لنقض ما قال فإنه حكي أن أعرابيا تكلم بين يدي الأصمعي بأنه كان يبني بناء ثم يعود له فقال له الأصمعي : ما أردت بقولك أعود له فقال أنقضه ، ولا يمكن حمله على الأول وهو التكرار ; لأن القول لا يحتمل التكرار ; لأن التكرار إعادة عين الأول ولا يتصور ذلك في الإعراض لكونها مستحيلة البقاء فلا يتصور إعادتها ، وكذا النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أويسا بالكفارة لم يسأله أنه هل كرر الظهار أم لا ؟ ولو كان ذلك شرطا لسأله إذ الموضع موضع الإشكال وكذا الظهار الذي كان متعارفا بين أهل كرر الظهار أم لا ؟ ولو كان ذلك شرطا لسأله إذ الموضع موضع الإشكال ، وكذا الظهار الذي كان متعارفا بين أهل الجاهلية لم يكن فيه تكرار القول وإذا تعذر حمله على الوجه الأول يحمل على الثاني وهو العود لنقض ما قالوا وفسخه فكان معناه ثم يرجعون عما قالوا وذلك بالعزم على الوطء ; لأن ما قاله المظاهر هو تحريم الوطء فكان العود لنقضه وفسخه استباحة الوطء وبهذا تبين فساد تأويل الشافعي العود بإمساك المرأة واستبقاء النكاح لأن إمساك المرأة لا يعرف عودا في اللغة ولا إمساك شيء من الأشياء يتكلم فيه بالعود ولأن الظهار ليس برفع النكاح حتى يكون العود لما قال استبقاء للنكاح فبطل تأويل العود بالإمساك على النكاح والدليل على بطلان هذا التأويل أن الله تعالى قال { ثم يعودون لما قالوا } وثم للتراخي فمن جعل العود عبارة عن استبقاء النكاح وإمساك المرأة عليه فقد جعله عائدا عقيب القول بلا تراخي وهذا خلاف النص .

                                                                                                                                أما قوله إن النص يقتضي وجوب الكفارة وعندكم لا تجب الكفارة فليس كذلك بل عندنا تجب الكفارة إذا عزم على الوطء كأنه قال تعالى إذا عزمت على الوطء فكفر قبله كما قال سبحانه وتعالى { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } وقوله سبحانه { إذا ناجيتم الرسول فقدموا } ونحو ذلك واختلف أيضا في سبب وجوب هذه الكفارة قال بعضهم : إنها تجب بالظهار والعود جميعا ; لأن الله تعالى علقها بهما بقوله تعالى { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة } وقال بعضهم : سبب الوجوب هو الظهار والعود شرط ; لأن الظهار ذنب .

                                                                                                                                ألا ترى أن الله تعالى جعله منكرا من القول وزورا ؟ والحاجة إلى رفع الذنب والزجر عنه في المستقبل ثابتة فتجب الكفارة ; لأنها رافعة للذنب وزاجرة عنه والدليل عليه أنه تضاف الكفارة إلى الظهار لا إلى العود يقال : كفارة الظهار والأصل أن الأحكام تضاف إلى أسبابها لا إلى شروطها ، وقال بعضهم : سبب الوجوب وهو العود والظهار شرط ; لأن الكفارة عبادة والظهار محظور محض فلا يصح سببا لوجوب العبادة ، وقال بعضهم : كل واحد منهما شرط ، وسبب الوجوب أمر ثالث هو كون الكفارة طريقا متعينا لإيفاء الواجب ، وكونه قادرا على الإيفاء ; لأن إيفاء حقها في الوطء واجب ويجب عليه في الحكم إن كانت بكرا أو ثيبا ولم يطأها مرة وإن كانت ثيبا وقد وطئها مرة لا تجب فيما بينه وبين الله تعالى اتصال ذلك أيضا لإيفاء حقها ، وعند بعض أصحابنا يجب في الحكم أيضا حتى يجبر عليه ولا يمكنه إيفاء الواجب إلا برفع الحرمة ولا ترتفع الحرمة إلا بالكفارة فتلزمه الكفارة ضرورة إيفاء [ ص: 237 ] الواجب على الأصل المعهود أن إيجاب الشيء إيجاب له ولما لا يتوصل إليه إلا به كالأمر بإقامة الصلاة يكون أمرا بالطهارة ونحو ذلك والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية