الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

واختلفوا فيما إذا تاب القاتل وسلم نفسه فقتل قصاصا ، هل يبقى عليه يوم القيامة للمقتول حق ؟ .

فقالت طائفة : لا يبقى عليه شيء لأن القصاص حده ، والحدود كفارة لأهلها ، وقد استوفى ورثة المقتول حق موروثهم ، وهم قائمون مقامه في ذلك ، فكأنه قد استوفاه بنفسه إذ لا فرق بين استيفاء الرجل حقه بنفسه أو بنائبه ووكيله .

يوضح هذا أنه أحد الجنايتين ، فإذا استوفيت منه لم يبق عليه شيء كما لو جنى على طرفه فاستقاد منه ، فإنه لا يبقى له عليه شيء .

وقالت طائفة : المقتول قد ظلم وفاتت عليه نفسه ولم يستدرك ظلامته ، والوارث إنما أدرك ثأر نفسه وشفاء غيظه ، وأي منفعة حصلت للمقتول بذلك ؟ وأي ظلامة استوفاها من القاتل ؟ .

قالوا : فالحقوق في القتل ثلاثة : حق لله ، وحق للمقتول ، وحق للوارث ، فحق الله لا يزول إلا بالتوبة ، وحق الوارث قد استوفاه بالقتل ، وهو مخير بين ثلاثة أشياء : بين القصاص ، والعفو مجانا ، أو إلى مال ، فلو أحله أو أخذ منه مالا لم يسقط حق المقتول بذلك ، فكذلك إذا اقتص منه; لأنه أحد الطرق الثلاثة في استيفاء حقه ، فكيف يسقط حق المقتول بواحد منها دون الآخرين ؟ .

[ ص: 402 ] قالوا : ولو قال القتيل : لا تقتلوه لأطالبه بحقي يوم القيامة فقتلوه ، أكان يسقط حقه أو لم يسقطه ؟ فإن قلتم : يسقط ، فباطل; لأنه لم يرض بإسقاطه ، وإن قلتم : لا يسقط ، فكيف تسقطونه إذا اقتص منه مع عدم العلم برضا المقتول بإسقاط حقه ؟ .

وهذه حجج كما ترى في القوة لا تندفع إلا بأقوى منها أو بأمثالها .

فالصواب والله أعلم أن يقال : إذا تاب القاتل من حق الله ، وسلم نفسه طوعا إلى الوارث ليستوفي منه حق موروثه سقط عنه الحقان ، وبقي حق الموروث لا يضيعه الله ، ويجعل من تمام مغفرته للقاتل تعويض المقتول; لأن مصيبته لم تنجبر بقتل قاتله ، والتوبة النصوح تهدم ما قبلها ، فيعوض هذا عن مظلمته ، ولا يعاقب هذا لكمال توبته ، وصار هذا كالكافر المحارب لله ولرسوله إذا قتل مسلما في الصف ثم أسلم وحسن إسلامه فإن الله سبحانه يعوض هذا الشهيد المقتول ، ويغفر للكافر بإسلامه ولا يؤاخذه بقتل المسلم ظلما فإن هدم التوبة لما قبلها كهدم الإسلام لما قبله .

وعلى هذا إذا سلم نفسه وانقاد فعفا عنه الولي وتاب القاتل توبة نصوحا فالله تعالى يقبل توبته ويعوض المقتول .

فهذا الذي يمكن أن يصل إليه نظر العالم واجتهاده ، والحكم بعد ذلك لله إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم .

التالي السابق


الخدمات العلمية