الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : لقائل أن يقول ظاهر قوله : ( حتى إذا فشلتم ) بمنزلة الشرط ، ولا بد له من الجواب فأين جوابه ؟

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن للعلماء هاهنا طريقين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن هذا ليس بشرط ، بل المعنى ، ولقد صدقكم الله وعده [ ص: 30 ] حتى إذا فشلتم ، أي قد نصركم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع ؛ لأنه تعالى كان إنما وعدهم بالنصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة ، فلما فشلوا وعصوا انتهى النصر ، وعلى هذا القول تكون كلمة "حتى" غاية بمعنى "إلى" فيكون معنى قوله : ( حتى إذا ) إلى أن ، أو إلى حين .

                                                                                                                                                                                                                                            الطريق الثاني : أن يساعد على أن قوله : ( حتى إذا فشلتم ) شرط ، وعلى هذا القول اختلفوا في الجواب على وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو قول البصريين أن جوابه محذوف ، والتقدير : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منعكم الله نصره ، وإنما حسن حذف هذا الجواب لدلالة قوله : ( ولقد صدقكم الله وعده ) عليه ، ونظائره في القرآن كثيرة ، قال تعالى : ( فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ) [الأنعام : 35] والتقدير : فافعل ، ثم أسقط هذا الجواب لدلالة هذا الكلام عليه ، وقال : ( أم من هو قانت آناء الليل ) [الزمر : 9] والتقدير : أم من هو قانت كمن لا يكون كذلك ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : وهو مذهب الكوفيين واختيار الفراء : أن جوابه هو قوله : ( وعصيتم ) والواو زائدة كما قال : ( فلما أسلما وتله للجبين وناديناه ) [الصافات : 103] والمعنى ناديناه ، كذا هاهنا ، الفشل والتنازع صار موجبا للعصيان ، فكان التقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر عصيتم ، فالواو زائدة ، وبعض من نصر هذا القول زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب "حتى إذا" بدليل قوله تعالى : ( حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ) [الزمر : 71] والتقدير حتى إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : إن "فشلتم وتنازعتم" معصية ، فلو جعلنا الفشل والتنازع علة للمعصية لزم كون الشيء علة لنفسه وذلك فاسد .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : المراد من العصيان هاهنا خروجهم عن ذلك المكان ، ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عن ذلك المكان ، فلم يلزم تعليل الشيء بنفسه .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن البصريين إنما لم يقبلوا هذا الجواب لأن مذهبهم أنه لا يجوز جعل الواو زائدة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث في الجواب : أن يقال تقدير الآية : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ، صرتم فريقين ، منكم من يريد الدنيا ، ومنكم من يريد الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                            فالجواب : هو قوله : صرتم فريقين ، إلا أنه أسقط لأن قوله : ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) يفيد فائدته ويؤدي معناه ؛ لأن كلمة "من" للتبعيض فهي تفيد هذا الانقسام ، وهذا احتمال خطر ببالي .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : قال أبو مسلم : جواب قوله : ( حتى إذا فشلتم ) هو قوله : ( صرفكم عنهم ) والتقدير حتى إذا فشلتم وكذا وكذا صرفكم عنهم ليبتليكم وكلمة "ثم" هاهنا كالساقطة وهذا الوجه في غاية البعد . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : أنه تعالى ذكر أمورا ثلاثة :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : الفشل وهو الضعف ، وقيل الفشل هو الجبن ، وهذا باطل بدليل قوله تعالى : ( ولا تنازعوا فتفشلوا ) [الأنفال : 46] أي فتضعفوا ؛ لأنه لا يليق به أن يكون المعنى فتجبنوا .

                                                                                                                                                                                                                                            ثانيها : التنازع في الأمر وفيه بحثان :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : المراد من التنازع أنه عليه الصلاة والسلام أمر الرماة بأن لا يبرحوا عن مكانهم ألبتة ، [ ص: 31 ] وجعل أميرهم عبد الله بن جبير ؛ فلما ظهر المشركون أقبل الرماة عليهم بالرمي الكثير حتى انهزم المشركون ثم إن الرماة رأوا نساء المشركين صعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخيلهن ، فقالوا : الغنيمة الغنيمة ، فقال عبد الله : عهد الرسول إلينا أن لا نبرح عن هذا المكان فأبوا عليه وذهبوا إلى طلب الغنيمة ، وبقي عبد الله مع طائفة قليلة دون العشرة إلى أن قتلهم المشركون فهذا هو التنازع .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : قوله : ( في الأمر ) فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الأمر هاهنا بمعنى الشأن والقصة ، أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه الأمر الذي يضاده النهي . والمعنى : وتنازعتم فيما أمركم الرسول به من ملازمة ذلك المكان .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ، والمراد عصيتم بترك ملازمة ذلك المكان . بقي في هذه الآية سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : لم قدم ذكر الفشل على ذكر التنازع والمعصية ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن القوم لما رأوا هزيمة الكفار وطمعوا في الغنيمة فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعا في الغنيمة ، ثم تنازعوا بطريق القول في أنا : هل نذهب لطلب الغنيمة أم لا ؟ ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : لما كانت المعصية بمفارقة تلك المواضع خاصة بالبعض فلم جاء هذا العتاب باللفظ العام ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : هذا اللفظ وإن كان عاما إلا أنه جاء المخصص بعده ، وهو قوله : ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : ما الفائدة في قوله : ( من بعد ما أراكم ما تحبون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عنه : أن المقصود منه التنبيه على عظم المعصية ؛ لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بإنجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، فلما أقدموا عليها لا جرم سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية