الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ) وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن التقدير أنهم قالوا ذلك الكلام ليجعل الله ذلك الكلام حسرة في قلوبهم ، مثل ما يقال : ربيته ليؤذيني ونصرته ليقهرني ومثله قوله تعالى : ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) [القصص : 8] إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في بيان أن ذلك القول كيف استعقب حصول الحسرة في قلوبهم وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم ؛ لأن أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في منعه عن ذلك السفر وعن ذلك الغزو لبقي ، فذلك الشخص إنما مات أو قتل بسبب أن هذا الإنسان قصر في منعه ، فيعتقد السامع لهذا الكلام أنه هو الذي تسبب إلى موت ذلك الشخص العزيز عليه أو قتله ، ومتى اعتقد في نفسه ذلك فلا شك أنه تزداد حسرته وتلهفه ، أما المسلم المعتقد في أن الحياة والموت لا يكون إلا بتقدير الله وقضائه ، لم يحصل ألبتة في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة ، فثبت أن تلك الشبهة التي ذكرها المنافقون لا تفيدهم إلا زيادة الحسرة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : أن المنافقين إذا ألقوا هذه الشبهة إلى إخوانهم تثبطوا عن الغزو والجهاد وتخلفوا عنه ، فإذا اشتغل المسلمون بالجهاد والغزو ، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة والاستيلاء على الأعداء . والفوز بالأماني ، بقي ذلك المتخلف عند ذلك في الخيبة والحسرة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : أن هذه الحسرة إنما تحصل يوم القيامة في قلوب المنافقين إذا رأوا تخصيص الله المجاهدين بمزيد الكرامات وإعلاء الدرجات ، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخزي واللعن والعقاب .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : أن المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضعفة المسلمين ووجدوا منهم قبولا لها ، فرحوا بذلك ، من حيث إنه راج كيدهم ومكرهم على أولئك الضعفة ، فالله تعالى يقول : إنه سيصير ذلك حسرة في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل في تقرير هذه الشبهة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الخامس : أن جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم فيقعون عند ذلك في الحيرة والخيبة وضيق الصدر ، وهو المراد بالحسرة ، كقوله : ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ) [الأنعام : 125] .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه السادس : أنهم متى ألقوا هذه الشبهة على أقوياء المسلمين لم يلتفتوا إليهم فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم فتحصل الحسرة في قلوبهم .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني في تفسير الآية : أن اللام في قوله : ( ليجعل الله ) متعلقة بما دل عليه النهي ، والتقدير : لا تكونوا مثلهم حتى يجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم ؛ لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغيظهم . [ ص: 47 ] ثم قال تعالى : ( والله يحيي ويميت ) وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المقصود منه بيان الجواب عن هذه الشبهة ، وتقريره أن المحيي والمميت هو الله ، ولا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت ، وأن علم الله لا يتغير ، وأن حكمه لا ينقلب ، وأن قضاءه لا يتبدل ، فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت ؟

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : إن كان القول بأن قضاء الله لا يتبدل يمنع من كون الجد والاجتهاد مفيدا في الحذر عن القتل والموت ، فكذا القول بأن قضاء الله لا يتبدل وجب أن يمنع من كون العمل مفيدا في الاحتراز عن عقاب الآخرة ، وهذا يمنع من لزوم التكليف ، والمقصود من هذه الآيات تقرير الأمر بالجهاد والتكليف ، وإذا كان الجواب يفضي بالآخرة إلى سقوط التكليف كان هذا الكلام يقضي ثبوته إلى نفيه فيكون باطلا .

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : أن حسن التكليف عندنا غير معلل بعلة ورعاية مصلحة ، بل عندنا أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : في تأويل الآية : أنه ليس الغرض من هذا الكلام الجواب عن تلك الشبهة بل المقصود أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل قول المنافقين ، قال : ( والله يحيي ويميت ) يريد : يحيي قلوب أوليائه وأهل طاعته بالنور والفرقان ، ويميت قلوب أعدائه من المنافقين .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية