المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى أمرنا بالتقوى وذكر عقيبه أنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ، وهذا مشعر بأن
nindex.php?page=treesubj&link=19864الأمر بالتقوى معلل بأنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ، ولا بد من بيان المناسبة بين هذا الحكم وبين ذلك الوصف ، فنقول : قولنا : إنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ، مشتمل على قيدين : أحدهما : أنه تعالى خلقنا ، والثاني : كيفية ذلك التخليق ، وهو أنه تعالى إنما خلقنا من نفس واحدة ، ولكل واحد من هذين القيدين أثر في وجوب التقوى .
أما القيد الأول : وهو أنه تعالى خلقنا ، فلا شك أن هذا المعنى علة لأن يجب علينا الانقياد لتكاليف الله تعالى والخضوع لأوامره ونواهيه ، وبيان ذلك من وجوه :
الأول : أنه لما كان خالقا لنا وموجدا لذواتنا وصفاتنا فنحن عبيده وهو مولى لنا ، والربوبية توجب نفاذ أوامره على عبيده ، والعبودية توجب الانقياد للرب والموجد والخالق .
الثاني : أن الإيجاد غاية الإنعام ونهاية الإحسان ، فإنك كنت معدوما فأوجدك ، وميتا فأحياك ، وعاجزا فأقدرك . وجاهلا فعلمك ، كما قال
إبراهيم عليه السلام : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=78الذي خلقني فهو يهدين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=79والذي هو يطعمني ويسقين ) [ الشعراء : 79 ] فلما كانت النعم بأسرها من الله سبحانه وجب على العبد أن يقابل تلك النعم بإظهار الخضوع والانقياد ، وترك التمرد والعناد ، وهذا هو المراد بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=28كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ) [ البقرة : 28 ] .
الثالث : وهو أنه لما ثبت كونه موجدا وخالقا وإلها وربا لنا . وجب علينا أن نشتغل بعبوديته وأن نتقي كل ما نهى عنه وزجر عنه ، ووجب أن لا يكون شيء من هذه الأفعال موجبا ثوابا البتة ؛ لأن هذه الطاعات لما وجبت في مقابلة النعم السالفة امتنع أن تصير موجبة للثواب ؛ لأن أداء الحق إلى المستحق لا يوجب شيئا آخر ، هذا إذا سلمنا
[ ص: 130 ] أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه ابتداء ، فكيف وهذا محال ؛ لأن فعل الطاعات لا يحصل إلا إذا خلق الله القدرة على الطاعة ، وخلق الداعية على الطاعة ، ومتى حصلت القدرة والداعي كان مجموعهما موجبا لصدور الطاعة عن العبد ، وإذا كان كذلك كانت تلك الطاعة إنعاما من الله على عبده ، والمولى إذا خص عبده بإنعام لم يصر ذلك الإنعام موجبا عليه إنعاما آخر ، فهذا هو الإشارة إلى بيان أن كونه خالقا لنا يوجب علينا عبوديته والاحتراز عن مناهيه .
وأما القيد الثاني : وهو أن خصوص
nindex.php?page=treesubj&link=28665كونه خالقا لنا من نفس واحدة يوجب علينا الطاعة والاحتراز عن المعصية ، فبيانه من وجوه :
الأول : أن خلق جميع الأشخاص الإنسانية من الإنسان الواحد أدل على كمال القدرة ، من حيث إنه لو كان الأمر بالطبيعة والخاصية لكان المتولد من الإنسان الواحد ، لم يكن إلا أشياء متشاكلة في الصفة متشابهة في الخلقة والطبيعة ، فلما رأينا في أشخاص الناس الأبيض والأسود والأحمر والأسمر والحسن والقبيح والطويل والقصير ، دل ذلك على أن مدبرها وخالقها فاعل مختار ، لا طبيعة مؤثرة ، ولا علة موجبة ، ولما دلت هذه الدقيقة على أن مدبر العالم فاعل مختار قادر على كل الممكنات عالم بكل المعلومات ، فحينئذ يجب الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه ، فكان ارتباط قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1اتقوا ربكم ) بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1خلقكم من نفس واحدة ) في غاية الحسن والانتظام .
والوجه الثاني : وهو أنه تعالى لما ذكر الأمر بالتقوى ذكر عقيبه الأمر بالإحسان إلى اليتامى والنساء والضعفاء ، وكون الخلق بأسرهم مخلوقين من نفس واحدة له أثر في هذا المعنى ، وذلك ؛ لأن الأقارب لا بد وأن يكون بينهم نوع مواصلة ومخالطة توجب مزيد المحبة ، ولذلك إن الإنسان يفرح بمدح أقاربه وأسلافه ، ويحزن بذمهم والطعن فيهم ، وقال عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012247فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها " وإذا كان الأمر كذلك ، فالفائدة في ذكر هذا المعنى أن يصير ذلك سببا لزيادة شفقة الخلق بعضهم على البعض .
الوجه الثالث : أن الناس إذا عرفوا كون الكل من شخص واحد تركوا المفاخرة والتكبر وأظهروا التواضع وحسن الخلق .
الوجه الرابع : أن هذا يدل على المعاد ، لأنه تعالى لما كان قادرا على أن يخرج من صلب شخص واحد أشخاصا مختلفين ، وأن يخلق من قطرة من النطفة شخصا عجيب التركيب لطيف الصورة ، فكيف يستبعد إحياء الأموات وبعثهم ونشورهم ، فتكون الآية دالة على المعاد من هذا الوجه (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=31ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) [ النجم : 31 ] .
الوجه الخامس : قال
الأصم : الفائدة فيه : أن العقل لا دليل فيه على أن الخلق يجب أن يكونوا مخلوقين من نفس واحدة ، بل ذلك إنما يعرف بالدلائل السمعية ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أميا ما قرأ كتابا ولا تلمذ لأستاذ ، فلما أخبر عن هذا المعنى كان إخبارا عن الغيب فكان معجزا ، فالحاصل أن
nindex.php?page=treesubj&link=28658قوله : ( nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1خلقكم ) دليل على معرفة التوحيد ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1من نفس واحدة ) دليل على معرفة النبوة .
فإن قيل :
nindex.php?page=treesubj&link=31808_33679_28781كيف يصح أن يكون الخلق أجمع من نفس واحدة مع كثرتهم وصغر تلك النفس ؟
[ ص: 131 ] قلنا : قد بين الله المراد بذلك ؛ لأن زوج
آدم إذا خلقت من بعضه ، ثم حصل خلق أولاده من نطفتهما ثم كذلك أبدا ، جازت إضافة الخلق أجمع إلى آدم .
المسألة الرابعة : أجمع المسلمون على أن المراد بالنفس الواحدة ههنا هو
آدم عليه السلام ، إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس ، ونظيره قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=74أقتلت نفسا زكية بغير نفس ) [ الكهف : 74 ] وقال الشاعر :
أبوك خليفة ولدته أخرى فأنت خليفة ذاك الكمال
قالوا فهذا التأنيث على لفظ الخليفة .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالتَّقْوَى وَذَكَرَ عَقِيبَهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19864الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى مُعَلَّلٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذَا الْحُكْمِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْوَصْفِ ، فَنَقُولُ : قَوْلُنَا : إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، مُشْتَمِلٌ عَلَى قَيْدَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا ، وَالثَّانِي : كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ التَّخْلِيقِ ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ أَثَرٌ فِي وُجُوبِ التَّقْوَى .
أَمَّا الْقَيْدُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى عِلَّةٌ لِأَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا الِانْقِيَادُ لِتَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعُ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَالِقًا لَنَا وَمُوجِدًا لِذَوَاتِنَا وَصِفَاتِنَا فَنَحْنُ عَبِيدُهُ وَهُوَ مَوْلًى لَنَا ، وَالرُّبُوبِيَّةُ تُوجِبُ نَفَاذَ أَوَامِرِهِ عَلَى عَبِيدِهِ ، وَالْعُبُودِيَّةُ تُوجِبُ الِانْقِيَادَ لِلرَّبِّ وَالْمُوجِدِ وَالْخَالِقِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْإِيجَادَ غَايَةُ الْإِنْعَامِ وَنِهَايَةُ الْإِحْسَانِ ، فَإِنَّكَ كُنْتَ مَعْدُومًا فَأَوْجَدَكَ ، وَمَيِّتًا فَأَحْيَاكَ ، وَعَاجِزًا فَأَقْدَرَكَ . وَجَاهِلًا فَعَلَّمَكَ ، كَمَا قَالَ
إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=78الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=79وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ) [ الشُّعَرَاءِ : 79 ] فَلَمَّا كَانَتِ النِّعَمُ بِأَسْرِهَا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُقَابِلَ تِلْكَ النِّعَمَ بِإِظْهَارِ الْخُضُوعِ وَالِانْقِيَادِ ، وَتَرْكِ التَّمَرُّدِ وَالْعِنَادِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=28كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) [ الْبَقَرَةِ : 28 ] .
الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ كَوْنُهُ مُوجِدًا وَخَالِقًا وَإِلَهًا وَرَبًّا لَنَا . وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَشْتَغِلَ بِعُبُودِيَّتِهِ وَأَنْ نَتَّقِيَ كُلَّ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ عَنْهُ ، وَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مُوجِبًا ثَوَابًا الْبَتَّةَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الطَّاعَاتِ لَمَّا وَجَبَتْ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ السَّالِفَةِ امْتَنَعَ أَنْ تَصِيرَ مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْحَقِّ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ لَا يُوجِبُ شَيْئًا آخَرَ ، هَذَا إِذَا سَلَّمْنَا
[ ص: 130 ] أَنَّ الْعَبْدَ أَتَى بِتِلْكَ الطَّاعَاتِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ابْتِدَاءً ، فَكَيْفَ وَهَذَا مُحَالٌ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الطَّاعَاتِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْقُدْرَةَ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَخَلَقَ الدَّاعِيَةَ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَمَتَى حَصَلَتِ الْقُدْرَةُ وَالدَّاعِي كَانَ مَجْمُوعُهُمَا مُوجِبًا لِصُدُورِ الطَّاعَةِ عَنِ الْعَبْدِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ تِلْكَ الطَّاعَةُ إِنْعَامًا مِنَ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ ، وَالْمَوْلَى إِذَا خَصَّ عَبْدَهُ بِإِنْعَامٍ لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ الْإِنْعَامُ مُوجِبًا عَلَيْهِ إِنْعَامًا آخَرَ ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى بَيَانِ أَنَّ كَوْنَهُ خَالِقًا لَنَا يُوجِبُ عَلَيْنَا عُبُودِيَّتَهُ وَالِاحْتِرَازَ عَنْ مَنَاهِيهِ .
وَأَمَّا الْقَيْدُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنَّ خُصُوصَ
nindex.php?page=treesubj&link=28665كَوْنِهِ خَالِقًا لَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ يُوجِبُ عَلَيْنَا الطَّاعَةَ وَالِاحْتِرَازَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ ، فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ خَلْقَ جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ الْإِنْسَانِيَّةِ مِنَ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ أَدَلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ لَكَانَ الْمُتَوَلَّدُ مِنَ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَشْيَاءَ مُتَشَاكِلَةً فِي الصِّفَةِ مُتَشَابِهَةً فِي الْخِلْقَةِ وَالطَّبِيعَةِ ، فَلَمَّا رَأَيْنَا فِي أَشْخَاصِ النَّاسِ الْأَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ وَالْأَحْمَرَ وَالْأَسْمَرَ وَالْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ وَالطَّوِيلَ وَالْقَصِيرَ ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُدَبِّرَهَا وَخَالِقَهَا فَاعِلٌ مُخْتَارٌ ، لَا طَبِيعَةٌ مُؤَثِّرَةٌ ، وَلَا عِلَّةٌ مُوجِبَةٌ ، وَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ عَلَى أَنَّ مُدَبِّرَ الْعَالَمِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الِانْقِيَادُ لِتَكَالِيفِهِ وَأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ ، فَكَانَ ارْتِبَاطُ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1اتَّقُوا رَبَّكُمُ ) بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالِانْتِظَامِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى ذَكَرَ عَقِيبَهُ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ وَالضُّعَفَاءِ ، وَكَوْنُ الْخَلْقِ بِأَسْرِهِمْ مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ لَهُ أَثَرٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَقَارِبَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ نَوْعُ مُوَاصَلَةٍ وَمُخَالَطَةٍ تُوجِبُ مَزِيدَ الْمَحَبَّةِ ، وَلِذَلِكَ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَفْرَحُ بِمَدْحِ أَقَارِبِهِ وَأَسْلَافِهِ ، وَيَحْزَنُ بِذَمِّهِمْ وَالطَّعْنِ فِيهِمْ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012247فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا يُؤْذِيهَا " وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، فَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ شَفَقَةِ الْخَلْقِ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ النَّاسَ إِذَا عَرَفُوا كَوْنَ الْكُلِّ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ تَرَكُوا الْمُفَاخَرَةَ وَالتَّكَبُّرَ وَأَظْهَرُوا التَّوَاضُعَ وَحُسْنَ الْخُلُقِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعَادِ ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُخْرِجَ مِنْ صُلْبِ شَخْصٍ وَاحِدٍ أَشْخَاصًا مُخْتَلِفِينَ ، وَأَنْ يَخْلُقَ مِنْ قَطْرَةٍ مِنَ النُّطْفَةِ شَخْصًا عَجِيبَ التَّرْكِيبِ لَطِيفَ الصُّورَةِ ، فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ إِحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ وَبَعْثُهُمْ وَنَشُورُهُمْ ، فَتَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى الْمَعَادِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=31لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) [ النَّجْمِ : 31 ] .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : قَالَ
الْأَصَمُّ : الْفَائِدَةُ فِيهِ : أَنَّ الْعَقْلَ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، بَلْ ذَلِكَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا مَا قَرَأَ كِتَابًا وَلَا تَلْمَذَ لِأُسْتَاذٍ ، فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَكَانَ مُعْجِزًا ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28658قَوْلَهُ : ( nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1خَلَقَكُمْ ) دَلِيلٌ عَلَى مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ ، وَقَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) دَلِيلٌ عَلَى مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ :
nindex.php?page=treesubj&link=31808_33679_28781كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ أَجْمَعُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَصِغَرِ تِلْكَ النَّفْسِ ؟
[ ص: 131 ] قُلْنَا : قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ الْمُرَادَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ زَوْجَ
آدَمَ إِذَا خُلِقَتْ مِنْ بَعْضِهِ ، ثُمَّ حَصَلَ خَلْقُ أَوْلَادِهِ مِنْ نُطْفَتِهِمَا ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَدًا ، جَازَتْ إِضَافَةُ الْخَلْقِ أَجْمَعَ إِلَى آدَمَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ هَهُنَا هُوَ
آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، إِلَّا أَنَّهُ أَنَّثَ الْوَصْفَ عَلَى لَفْظِ النَّفْسِ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=74أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ) [ الْكَهْفِ : 74 ] وَقَالَ الشَّاعِرُ :
أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى فَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ
قَالُوا فَهَذَا التَّأْنِيثُ عَلَى لَفْظِ الْخَلِيفَةِ .