الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل فيورثه ذلك : المشهد الحادي عشر

وهو مشهد العجز والضعف ، وأنه أعجز شيء عن حفظ نفسه وأضعفه ، وأنه لا قوة له ولا قدرة ولا حول إلا بربه ، فيشهد قلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها الرياح يمينا وشمالا ، ويشهد نفسه كراكب سفينة في البحر تهيج بها الرياح وتتلاعب بها الأمواج ، ترفعها تارة ، وتخفضها تارة أخرى ، تجري عليه أحكام القدر ، وهو كالآلة طريحا بين يدي وليه ، ملقى ببابه ، واضعا خده على ثرى أعتابه ، لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، ليس له من نفسه إلا الجهل والظلم وآثارهما ومقتضياتهثما ، فالهلاك أدنى إليه من شراك نعله كشاة ملقاة بين الذئاب والسباع ، لا يردها عنها إلا الراعي ، فلو تخلى عنها طرفة عين لتقاسموها أعضاء .

وهكذا حال العبد ملقى بين الله وبين أعدائه ، من شياطين الإنس والجن ، فإن حماه منهم وكفهم عنه لم يجدوا إليه سبيلا ، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه طرفة عين لم ينقسم عليهم ، بل هو نصيب من ظفر به منهم .

وفي هذا المشهد يعرف نفسه حقا ، ويعرف ربه ، وهذا أحد التأويلات للكلام المشهور " من عرف نفسه عرف ربه " وليس هذا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما هو أثر [ ص: 427 ] إسرائيلي بغير هذا اللفظ أيضا " يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك " وفيه ثلاث تأويلات :

أحدها : أن من عرف نفسه بالضعف عرف ربه بالقوة ، ومن عرفها بالعجز عرف ربه بالقدرة ، ومن عرفها بالذل ، عرف ربه بالعز ، ومن عرفها بالجهل ، عرف ربه بالعلم ، فإن الله سبحانه استأثر بالكمال المطلق ، والحمد والثناء ، والمجد والغنى ، والعبد فقير ناقص محتاج ، وكلما ازدادت معرفة العبد بنقصه وعيبه وفقره وذله وضعفه ازدادت معرفته لربه بأوصاف كماله .

التأويل الثاني : أن من نظر إلى نفسه وما فيها من الصفات الممدوحة من القوة والإرادة والكلام والمشيئة والحياة ، عرف أن من أعطاه ذلك وخلقه فيه أولى به ، فمعطي الكمال أحق بالكمال ، فكيف يكون العبد حيا متكلما سميعا بصيرا مريدا عالما ، يفعل باختياره ، ومن خلقه وأوجده لا يكون أولى بذلك منه ؟ فهذا من أعظم المحال ، بل من جعل العبد متكلما أولى أن يكون هو متكلما ومن جعله حيا عليما سميعا بصيرا فاعلا قادرا ، أولى أن يكون كذلك .

فالتأويل الأول من باب الضد ، وهذا من باب الأولوية .

والتأويل الثالث : أن هذا من باب النفي ، أي كما أنك لا تعرف نفسك التي هي أقرب الأشياء إليك ، فلا تعرف حقيقتها ، ولا ماهيتها ولا كيفيتها ، فكيف تعرف ربك وكيفية صفاته ؟ .

والمقصود : أن هذا المشهد يعرف العبد أنه عاجز ضعيف ، فتزول عنه رعونات الدعاوي ، والإضافات إلى نفسه ، ويعلم أنه ليس له من الأمر شيء ، إن هو إلا محض القهر والعجز والضعف .

التالي السابق


الخدمات العلمية