الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( فعل القرآن في أنفس العرب المستعدة له نوعان )

                          بيان ذلك أن فعل القرآن في أنفس العرب وإحداثه تلك الثورة الكبرى فيهم قد كان على نوعين : أولهما جذبه الناس إلى الإسلام ، وثانيهما تزكيتهم وتغيير كل ما بأنفسهم من جهل وفساد إلى ضده ، حتى أعقب ما أعقب من الإصلاح في العالم كله . وهاك التفصيل الذي يحتمله المقام لذلك .

                          بينا مرارا أن الله تعالى قد أعد الأمة العربية ولا سيما قريش ومن حولها لما أراده [ ص: 167 ] من الإصلاح العام للبشر بكونهم كانوا أقرب الأمم إلى سلامة الفطرة ، وأرقاهم لغة وأقواهم استقلالا في العقل والإرادة ; لعدم وجود ملوك مستبدين ورؤساء دين أولي سلطان روحي يتحكمون في عقائدهم وأفكارهم ويسخرونهم لشهواتهم .

                          فلما بعث فيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذا القرآن الداعي إلى الحق وإلى صراط مستقيم كانوا على أتم الاستعداد الفطري لقبول دعوته ، ولكن رؤساء قريش كانوا على مقربة من ملوك شعوب العجم في التمتع بالثروة الواسعة والعظمة الكاذبة والشهوات الفاتنة والسرف في الترف ، وعلى حظ مما كان عليه رؤساء الأديان فيها من المكانة الدينية بسدانتهم لبيت الله الحرام الذي أودع الله تعظيمه في القلوب من عهد إبراهيم وإسماعيل - فرأوا أن هذا الدين يسلبهم الانفراد بهذه العظمة الموروثة ، وقد يفضل عليهم بعض الفقراء والموالي ، وأنه يحكم عليهم وعلى من يفاخرون بهم من آبائهم بالكفر والجهل والظلم والفسوق ويشبههم بسائمة الأنعام - فوجهوا كل قواهم ونفوذهم إلى صد محمد عن دعوته ولو بتمليكه عليهم ، وجعله أغنى رجل فيهم ، ولكن تعذر إقناعه بالرجوع عنها بالترغيب ، حتى التمويل والتمليك ، فقد أجاب عمه أبا طالب لما عرض عليه ما أرادوه من ذلك بتلك الكلمة العليا : ( ( يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته ) ) حينئذ أجمعوا أمرهم على صده عن تبليغها بالقوة ، والحيلولة بينه وبين جماهير الناس في الأسواق والمجامع والبيت الحرام ، وبصد الناس عنه أن يأتوه ويستمعوا له ، وباضطهاد من اتبعه بالدعوة الفردية ، إلا أن يكون له من يحميه منهم لقرابة أو جوار أو ذمة ، فهؤلاء الرؤساء المترفون المسرفون المتكبرون كانوا أعلم الناس بصدق محمد وفيهم نزل قوله تعالى : ( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) ( 6 : 33 ) فقد كابروا الحق بغيا واستكبارا للحرص على رياستهم وشهواتهم ، وكانوا أجدر العرب بقبول دعوة القرآن : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) ( 27 : 14 ) كفرعون وقارون وهارون .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية