الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا [ ص: 492 ] وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ألم تكن " المعنى : ويقال لهم : ألم تكن ، " آياتي تتلى عليكم " ، يعني : القرآن . " قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا " قرأ ابن كثير ، وعاصم ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : ( شقوتنا ) بكسر الشين من غير ألف . وقرأ عمرو بن العاص ، وأبو رزين العقيلي ، وأبو رجاء العطاردي كذلك ، إلا أنه بفتح الشين . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي : ( شقاوتنا ) بألف مع فتح الشين والقاف . وعن الحسن وقتادة كذلك ، إلا أن الشين مكسورة . قال المفسرون : أقر القوم بأن ما كتب عليهم من الشقاء منعهم الهدى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ربنا أخرجنا منها " ; أي : من النار . قال ابن عباس : طلبوا الرجوع إلى الدنيا . " فإن عدنا " ; أي : إلى الكفر والمعاصي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " اخسئوا " قال الزجاج : تباعدوا تباعد سخط ، يقال : خسأت الكلب أخسؤه : إذا زجرته ليتباعد .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ولا تكلمون " ; أي : في رفع العذاب عنكم . قال عبد الله بن عمرو : إن أهل جهنم يدعون مالكا أربعين عاما فلا يجيبهم ، ثم يقول : إنكم ماكثون [ الزخرف : 77 ] ، ثم ينادون ربهم " ربنا أخرجنا منها " فيدعهم مثل عمر الدنيا ، ثم يقول : " إنكم ماكثون " ، ثم ينادون ربهم " ربنا أخرجنا منها " فيدعهم مثل عمر الدنيا ، ثم يرد عليهم " اخسئوا فيها ولا تكلمون " فما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة ، إن كان إلا الزفير والشهيق . [ ص: 493 ]

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بين الذي لأجله أخسأهم بقوله : " إنه " . وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران الجوني ، وعاصم الجحدري : ( أنه ) بفتح الهمزة . " كان فريق من عبادي " قال ابن عباس : يريد : المهاجرين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " فاتخذتموهم " قال الزجاج : الأجود إدغام الذال في التاء لقرب المخرجين ، وإن شئت أظهرت ; لأن الذال من كلمة والتاء من كلمة ، وبين الذال والتاء في المخرج شيء من التباعد .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " سخريا " قرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو حاتم عن يعقوب : ( سخريا ) بضم السين هاهنا وفي ( ص : 63 ) ، تابعهم المفضل في ( ص : 32 ) . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر بكسر السين في السورتين . ولم يختلف في ضم السين في الحرف الذي في ( الزخرف : 32 ) . واختار الفراء الضم ، والزجاج الكسر . وهل هما بمعنى ؟ فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنهما لغتان ومعناهما واحد ، قاله الخليل وسيبويه ، ومثله قول العرب : بحر لجي ولجي ، وكوكب دري ودري .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أن الكسر بمعنى الهمز ، والضم بمعنى السخرة والاستعباد ، قاله أبو عبيدة ، وحكاه الفراء ، وهو مروي عن الحسن وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو علي : قراءة من كسر أرجح من قراءة من ضم ; لأنه من الهزء ، والأكثر في الهزء كسر السين . قال مقاتل : كان رءوس كفار قريش ، كأبي جهل ، وعقبة ، [ والوليد ] ، قد اتخذوا فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كعمار ، وبلال ، وخباب ، وصهيب ، سخريا يستهزئون بهم ويضحكون منهم . [ ص: 494 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " حتى أنسوكم ذكري " ; أي : أنساكم الاشتغال بالاستهزاء بهم ذكري ، فنسب الفعل إلى المؤمنين وإن لم يفعلوه ; لأنهم كانوا السبب في وجوده ، كقوله : إنهن أضللن كثيرا من الناس [ إبراهيم : 36 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " إني جزيتهم اليوم بما صبروا " ; أي : على أذاكم واستهزائكم . " أنهم " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : ( أنهم ) بفتح الألف . وقرأ حمزة والكسائي : ( إنهم ) بكسرها . فمن فتح ( أنهم ) فالمعنى : جزيتهم بصبرهم الفوز ، ومن كسر ( إنهم ) استأنف .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية