الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            فضل من شهد بدرا من المسلمين

            قال البخاري في هذا الباب : حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا معاوية بن عمرو ، ثنا أبو إسحاق ، عن حميد ، سمعت أنسا يقول : أصيب حارثة يوم بدر ، فجاءت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، قد عرفت منزلة حارثة ، مني فإن يك في الجنة أصبر وأحتسب ، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع . فقال : ويحك ، أوهبلت ، أوجنة واحدة هي ؟ إنها جنان كثيرة ، وإنه في جنة الفردوس . تفرد به البخاري من هذا الوجه

            وقد روي من غير هذا الوجه من حديث ثابت وقتادة ، عن أنس ، وأن حارثة كان في النظارة ، وفيه : إن ابنك أصاب الفردوس الأعلى وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر ، فإن هذا الذي لم يكن في بحبحة القتال ولا في حومة الوغى ، بل كان من النظارة من بعيد ، وإنما أصابه سهم غرب ، وهو يشرب من الحوض ، ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوس ، التي هي أعلى الجنان وأوسط الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة ، التي أمر الشارع أمته إذا سألوا الله الجنة أن يسألوه إياها ، فإذا كان هذا حال هذا ، فما ظنك بمن كان واقفا في نحر العدو ، وعدوهم على ثلاثة أضعافهم عددا وعددا .

            قصة حاطب بن أبي بلتعة ثم روى البخاري ومسلم جميعا عن إسحاق ابن راهويه ، عن عبد الله بن إدريس ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب ، قصة حاطب بن أبي بلتعة وبعثه الكتاب إلى أهل مكة عام الفتح ، وأن عمر استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضرب عنقه ، فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ولفظ البخاري : " أليس من أهل بدر ؟! ولعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة " أو " قد غفرت لكم " فدمعت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم .

            وروى مسلم ، عن قتيبة ، عن الليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أن عبدا لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا ، فقال : يا رسول الله ، ليدخلن حاطب النار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذبت ، لا يدخلها ، فإنه شهد بدرا والحديبية .

            وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، حدثني الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لن يدخل النار رجل شهد بدرا أو الحديبية . تفرد به أحمد ، وهو على شرط مسلم .

            وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أنبأنا حماد بن سلمة ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . ورواه أبو داود ، عن أحمد بن سنان ، وموسى بن إسماعيل ، كلاهما عن يزيد بن هارون به .

            وروى البزار في " مسنده " ثنا محمد بن مرزوق ، ثنا أبو حذيفة ، ثنا عكرمة ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأرجو أن لا يدخل النار من شهد بدرا إن شاء الله . ثم قال لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه . قلت : وقد تفرد البزار بهذا الحديث ولم يخرجوه ، وهو على شرط الصحيح . والله أعلم .

            شهود الملائكة بدرا وقال البخاري في باب شهود الملائكة بدرا : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، ثنا جرير ، عن يحيى بن سعيد ، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي ، عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم قال : من أفضل المسلمين - أو كلمة نحوها - قال : وكذلك من شهد بدرا من الملائكة . انفرد به البخاري . الخامس والعشرون : استشكل قوله : اعملوا ما شئتم [فصلت : 40] فإن ظاهره أنه للإباحة ، وهو خلاف عقد الشرع ، وأجيب بأنه إخبار عن الماضي أن كل عمل كان لكم فهو مغفور ، ويؤيده أنه لو كان لما يستقبلونه من العمل لم يقع بلفظ الماضي؛ ولهذا لقال : فسأغفره لكم ، وتعقب بأنه لو كان للماضي لما حسن الاستدلال به في قصة حاطب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب بذلك عمر منكرا عليه ما قال في أمر حاطب ، وهذه القصة كانت بعد بدر بست سنين ، فدل على أن المراد ما سيأتي . وأورده بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه .

            وقيل : إن صيغة الأمر في قوله : «اعملوا» للتشريف والتكريم ، فالمراد عدم المؤاخذة بما يصدر عنهم ، وأنهم خصوا بذلك لما حصل لهم من الحال العظيمة التي اقتضت محو ذنوبهم السالفة ، وتأهلوا لأن يغفر لهم الذنوب اللاحقة إن وقعت ، أي : كل ما عملتموه بعد هذه الوقعة من أي عمل كان فهو مغفور ، وقيل : إن المراد أن ذنوبهم تقع إذا وقعت مغفورة ، وقيل : هي شهادة بعدم وقوع الذنوب منهم ، وفيه نظر ظاهر؛ لما في قصة قدامة بن مظعون حين شرب الخمر في أيام عمر متأولا وحده ، فهاجر بسبب ذلك ، فرأى عمر في المنام من يأمره بمصالحته ، وكان قدامة بدريا .

            والذي يفهم من سياق القصة الاحتمال الثاني ، وهو الذي فهمه أبو عبد الرحمن السلمي التابعي الكبير ، واتفقوا على أن البشارة المذكورة فيما يتعلق بأحكام الآخرة ، لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية