الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإن قرأ القرآن بالفارسية لم تجزه ; لأن القصد من القرآن اللفظ [ والنظم ] وذلك لا يوجد في غيره ) .

                                      [ ص: 341 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 341 ] الشرح ) مذهبنا : أنه لا يجوز قراءة القرآن بغير لسان العرب سواء أمكنه العربية أو عجز عنها ، وسواء كان في الصلاة أو غيرها ، فإن أتى بترجمته في صلاة بدلا عن القراءة لم تصح صلاته سواء أحسن القراءة أم لا ، هذا مذهبنا ، وبه قال جماهير العلماء منهم مالك وأحمد وداود .

                                      وقال أبو حنيفة : تجوز وتصح به الصلاة مطلقا ، وقال أبو يوسف ومحمد : يجوز للعاجز دون القادر . واحتج لأبي حنيفة بقوله تعالى : { قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به } قالوا : والعجم لا يعقلون الإنذار إلا بترجمته ، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أنزل القرآن على سبعة أحرف } . وعن سلمان الفارسي : رضي الله عنه أن قوما من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئا من القرآن ، فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية ; ولأنه ذكر فقامت ترجمته مقامه كالشهادتين في الإسلام ، وقياسا على جواز ترجمة حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقياسا على جواز التسبيح بالعجمية .

                                      واحتج أصحابنا بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه : { أنه سمع هشام بن حكيم يقرأ سورة على غير ما يقرأ عمر فلببه بردائه ، وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم } وذكر الحديث ، رواه البخاري ومسلم ، فلو جازت الترجمة لأنكر عليه صلى الله عليه وسلم اعتراضه في شيء جائز ، واحتجوا أيضا : بأن ترجمة القرآن ليست قرآنا ; لأن القرآن هو هذا النظم المعجز ، وبالترجمة يزول الإعجاز فلم يجز ، وكما أن الشعر يخرجه ترجمته عن كونه شعرا ، فكذا القرآن .

                                      [ ص: 342 ] وأما الجواب عن الآية الكريمة : فهو أن الإنذار يحصل ليتم به ، وإن نقل إليهم معناه ، وأما الجواب عن الحديث فسبع لغات للعرب ; ولأنه يدل على أنه لا يتجاوز هذه السبعة ، وهم يقولون : يجوز بكل لسان ، ومعلوم : أنها تزيد على سبعة ، وعن فعل سلمان أنه كتب تفسيرها لا حقيقة الفاتحة ، وعن الإسلام : أن في جواز ترجمته للقادر على العربية وجهين سبق بيانهما في فصل التكبير . ، فإن قلنا : لا يصح فظاهر ، وإن قلنا - بالمذهب - إنه يصح إسلامه ، فالفرق : أن المراد معرفة اعتقاده الباطن ، والعجمية كالعربية في تحصيل ذلك . وعن القياس على الحديث والتسبيح : أن المراد بالقرآن الأحكام والنظم المعجز بخلاف الحديث والتسبيح ، هذه طريقة أصحابنا في المسألة ، وبسطها إمام الحرمين في الأساليب فقال : عمدتنا أن القرآن معجز ، والمعتمد في إعجازه اللفظ قال : ثم تكلم علماء الأصول في المعجز منه فقيل : الإعجاز في بلاغته وجزالته وفصاحته المجاوزة لحدود جزالة العرب ، والمختار : أن الإعجاز في جزالته مع أسلوبه الخارج عن أساليب كلام العرب .

                                      والجزالة والأسلوب يتعلقان بالألفاظ ، ثم معنى القرآن في حكم التابع للألفاظ ، فحصل من هذا أن اللفظ هو المقصود المتبوع ، والمعنى تابع فنقول بعد هذا التمهيد : ترجمة القرآن ليست قرآنا بإجماع المسلمين ، ومحاولة الدليل لهذا تكلف ، فليس أحد يخالف في أن من تكلم بمعنى القرآن بالهندية ليست قرآنا ، وليس ما لفظ به قرآنا ، ومن خالف في هذا كان مراغما جاحدا ، وتفسير شعر امرئ القيس ليس شعره ، فكيف يكون تفسير القرآن قرآنا ؟

                                      وقد سلموا أن الجنب لا يحرم عليه ذكر معنى القرآن ، والمحدث لا يمنع من حمل كتاب فيه معنى القرآن وترجمته ، فعلم أن ما جاء به ليس قرآنا ، ولا خلاف أن القرآن معجز ، وليست الترجمة معجزة ، والقرآن هو الذي تحدى به النبي صلى الله عليه وسلم العرب ، ووصفه الله تعالى بكونه عربيا ، وإذا علم أن الترجمة ليست قرآنا - وقد ثبت أنه لا تصح صلاته إلا بقرآن - حصل أن الصلاة لا تصح بالترجمة .

                                      هذا كله مع أن الصلاة مبناها على التعبد والاتباع والنهي عن الاختراع ، وطريق القياس منسدة ، وإذا نظر الناظر في أصل الصلاة ، وأعدادها ، [ ص: 343 ] واختصاصها بأوقاتها ، وما اشتملت عليه من عدد ركعاتها ، وإعادة ركوعها في كل ركعة ، وتكرر سجودها إلى غير ذلك من أفعالها - ومدارها على الاتباع ، ولم يفارقها جملة وتفصيلا - فهذا يسد باب القياس ، حتى لو قال قائل : مقصود الصلاة الخضوع فيقوم السجود مقام الركوع لم يقبل ذلك منه ، وإن كان السجود أبلغ في الخضوع . ثم عجبت من قولهم : إن الترجمة لا يكون لها حكم القرآن في تحريمها على الجنب ، ويقولون : لها حكمه في صحة الصلاة التي مبناها على التعبد والاتباع ، ويخالف تكبيرة الإحرام التي قلنا : يأتي بها العاجز عن العربية بلسانه ; لأن مقصودها المعنى مع اللفظ ، وهذا بخلافه . هذا آخر كلام إمام الحرمين رحمه الله .

                                      ( فرع ) لو قرأ الفاتحة بلغة لبعض العرب غير اللغة المقروءة لم تصح ، ولم يجز في غير الصلاة أيضا ، صرح به صاحب التتمة ، قال : ومن أتى بالترجمة إن كان متعمدا بطلت صلاته ، وإن كان ناسيا أو جاهلا لم يعتد بقراءته ، ولكن لا تبطل صلاته ويسجد للسهو كسائر الكلام ناسيا أو جاهلا .




                                      الخدمات العلمية