الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 9 ] وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل يجب على الإنسان أن يعلم أن الله عز وجل أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين : الإنس والجن وأوجب عليهم الإيمان به وبما جاء به وطاعته وأن يحللوا ما حلل الله ورسوله ويحرموا ما حرم الله ورسوله وأن يوجبوا ما أوجبه الله ورسوله ويحبوا ما أحبه الله ورسوله ويكرهوا ما كرهه الله ورسوله وأن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الإنس والجن فلم يؤمن به استحق عقاب الله تعالى كما يستحقه أمثاله من الكافرين الذين بعث إليهم الرسول .

                وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وسائر طوائف المسلمين : أهل السنة والجماعة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين [ ص: 10 ] لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن ولا في أن الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إليهم وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين وإن وجد فيهم من ينكر ذلك وكما يوجد في المسلمين من ينكر ذلك كما يوجد في طوائف المسلمين الغالطون والمعتزلة من ينكر ذلك وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرين بذلك .

                وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواترا معلوما بالاضطرار ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة بل مأمورون منهيون ليسوا صفات وأعراضا قائمة بالإنسان أو غيره كما يزعمه بعض الملاحدة فلما كان أمر الجن متواترا عن الأنبياء تواترا ظاهرا تعرفه العامة والخاصة لم يمكن طائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل أن تنكرهم كما لم يمكن لطائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل إنكار الملائكة ولا إنكار معاد الأبدان ولا إنكار عبادة الله وحده لا شريك له ولا إنكار أن يرسل الله رسولا من الإنس إلى خلقه ونحو ذلك مما تواترت به الأخبار عن الأنبياء تواترا تعرفه العامة والخاصة كما تواتر عند العامة والخاصة مجيء موسى إلى فرعون وغرق فرعون ومجيء المسيح إلى اليهود وعداوتهم له وظهور محمد [ ص: 11 ] صلى الله عليه وسلم بمكة وهجرته إلى المدينة ومجيئه بالقرآن والشرائع الظاهرة وجنس الآيات الخارقة التي ظهرت على يديه كتكثير الطعام والشراب والإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة التي لا يعلمها بشر إلا بإعلام الله وغير ذلك .

                ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بسؤال أهل الكتاب عما تواتر عندهم كقوله : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } فإن من الكفار من أنكر أن يكون لله رسول بشر فأخبر الله أن الذين أرسلهم قبل محمد كانوا بشرا وأمر بسؤال أهل الكتاب عن ذلك لمن لا يعلم .

                وكذلك سؤالهم عن التوحيد وغيره مما جاءت به الأنبياء وكفر به الكافرون قال تعالى : { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } وقال تعالى : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك } وقال تعالى : { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم } .

                وكذلك شهادة أهل الكتاب بتصديق ما أخبر به من أنباء الغيب التي لا يعلمها إلا نبي أو من أخبره نبي وقد علموا أن محمدا لم يتعلم [ ص: 12 ] من أهل الكتاب شيئا .

                وهذا غير شهادة أهل الكتاب له نفسه بما يجدونه من نعته في كتبهم كقوله تعالى : { أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } وقوله تعالى { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } وأمثال ذلك .

                وهذا بخلاف ما تواتر عند الخاصة من أهل العلم كأحاديث الرؤية وعذاب القبر وفتنته وأحاديث الشفاعة والصراط والحوض فهذا قد ينكره بعض من لم يعرفه من أهل الجهل والضلال ; ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي وأبي بكر وغيرهما دخول الجن في بدن المصروع ولم ينكروا وجود الجن إذ لم يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول كظهور هذا وإن كانوا مخطئين في ذلك . ولهذا ذكر الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون : إن الجني يدخل في بدن المصروع كما قال تعالى : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : قلت لأبي : إن قوما يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي . فقال : يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه . وهذا مبسوط في موضعه .

                [ ص: 13 ] والمقصود هنا أن جميع طوائف المسلمين يقرون بوجود الجن وكذلك جمهور الكفار كعامة أهل الكتاب وكذلك عامة مشركي العرب وغيرهم من أولاد الهذيل والهند وغيرهم من أولاد حام وكذلك جمهور الكنعانيين واليونانيين وغيرهم من أولاد يافث . فجماهير الطوائف تقر بوجود الجن بل يقرون بما يستجلبون به معاونة الجن من العزائم والطلاسم سواء أكان ذلك سائغا عند أهل الإيمان أو كان شركا فإن المشركين يقرءون من العزائم والطلاسم والرقى ما فيه عبادة للجن وتعظيم لهم وعامة ما بأيدي الناس من العزائم والطلاسم والرقى التي لا تفقه بالعربية فيها ما هو شرك بالجن .

                ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرقى التي لا يفقه معناها ; لأنها مظنة الشرك وإن لم يعرف الراقي أنها شرك . وفي صحيح مسلم عن { عوف بن مالك الأشجعي . قال : كنا نرقي في الجاهلية فقلنا : يا رسول الله كيف ترى في ذلك ؟ فقال : اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك } . وفي صحيح مسلم أيضا عن جابر قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب وإنك نهيت عن الرقى قال : فعرضوها عليه فقال : ما أرى بأسا من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه } [ ص: 14 ] وقد كان للعرب ولسائر الأمم من ذلك أمور يطول وصفها وأخبار العرب في ذلك متواترة عند من يعرف أخبارهم من علماء المسلمين وكذلك عند غيرهم ولكن المسلمين أخبر بجاهلية العرب منهم بجاهلية سائر الأمم إذ كان خير القرون كانوا عربا وكانوا قد عاينوا وسمعوا ما كانوا عليه في الجاهلية وكان ذلك من أسباب نزول القرآن فذكروا في كتب التفسير والحديث والسير والمغازي والفقه فتواترت أيام جاهلية العرب في المسلمين وإلا فسائر الأمم المشركين هم من جنس العرب المشركين في هذا وبعضهم كان أشد كفرا وضلالا من مشركي العرب وبعضهم أخف .

                والآيات التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم فيها خطاب لجميع الخلق من الإنس والجن . إذ كانت رسالته عامة للثقلين وإن كان من أسباب نزول الآيات ما كان موجودا في العرب فليس شيء من الآيات مختصا بالسبب المعين الذي نزل فيه باتفاق المسلمين وإنما تنازعوا : هل يختص بنوع السبب المسئول عنه ؟ وأما بعين السبب فلم يقل أحد من المسلمين : أن آيات الطلاق أو الظهار أو اللعان أو حد السرقة والمحاربين وغير ذلك يختص بالشخص المعين الذي كان سبب نزول الآية .

                وهذا الذي يسميه بعض الناس تنقيح المناط وهو أن يكون [ ص: 15 ] الرسول صلى الله عليه وسلم حكم في معين وقد علم أن الحكم لا يختص به فيريد أن ينقح مناط الحكم ليعلم النوع الذي حكم فيه كما أنه لما { أمر الأعرابي الذي واقع امرأته في رمضان بالكفارة } وقد علم أن الحكم لا يختص به وعلم أن كونه أعرابيا أو عربيا أو الموطوءة زوجته لا أثر له فلو وطئ المسلم العجمي سريته كان الحكم كذلك .

                ولكن هل المؤثر في الكفارة كونه مجامعا في رمضان أو كونه مفطرا ؟ فالأول مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه والثاني مذهب مالك وأبي حنيفة وهو رواية منصوصة عن أحمد في الحجامة فغيرها أولى ثم مالك يجعل المؤثر جنس المفطر وأبو حنيفة يجعلها المفطر كتنوع جنسه فلا يوجبه في ابتلاع الحصاة والنواة .

                وتنازعوا هل يشترط أن يكون أفسد صوما صحيحا ؟ وأحمد لا يشترط ذلك ; بل كل إمساك وجب في شهر رمضان أوجب فيه الكفارة كما يوجب الأربعة مثل ذلك في الإحرام الفاسد فالصيام الفاسد عنده كالإحرام الفاسد كلاهما يجب إتمامه والمضي فيه والشافعي وغيره لا يوجبونها إلا في صوم صحيح والنزاع فيمن أكل ثم جامع أو لم ينو الصوم ثم جامع ومن جامع وكفر ثم جامع .

                ومثل قوله لمن أحرم بالعمرة في جبة متضمخا بالخلوق : { انزع [ ص: 16 ] عنك الجبة واغسل عنك أثر الصفرة } هل أمره بالغسل لكون المحرم لا يستديم الطيب كما يقوله مالك ؟ أو لكونه نهى أن يتزعفر الرجل فلا يمنع من استدامة الطيب كقول الثلاثة ؟ وعلى الأول فهل هذا الحديث منسوخ بتطييب عائشة له في حجة الوداع ؟ ومثل { قوله لما سئل عن فأرة وقعت في سمن : ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم } هل المؤثر عدم التغير بالنجاسة أو بكونه جامدا أو كونها فأرة وقعت في سمن فلا يتعدى إلى سائر المائعات ؟ ومثل هذا كثير وهذا لا بد منه في الشرائع ولا يسمى قياسا عند كثير من العلماء كأبي حنيفة ونفاة القياس ; لاتفاق الناس على العمل به كما اتفقوا على تحقيق المناط وهو : أن يعلق الشارع الحكم بمعنى كلي فينظر في ثبوته في بعض الأنواع أو بعض الأعيان كأمره باستقبال الكعبة وكأمره باستشهاد شهيدين من رجالنا ممن نرضى من الشهداء وكتحريمه الخمر والميسر ; وكفرضه تحليل اليمين بالكفارة وكتفريقه بين الفدية والطلاق ; وغير ذلك .

                فيبقى النظر في بعض الأنواع : هل هي خمر ويمين وميسر وفدية أو طلاق ؟ وفي بعض الأعيان : هل هي من هذا النوع ؟ وهل هذا المصلي مستقبل القبلة ؟ وهذا الشخص عدل مرضي ؟ ونحو ذلك ; فإن هذا النوع من الاجتهاد متفق عليه بين المسلمين بل بين العقلاء فيما يتبعونه من شرائع دينهم وطاعة ولاة أمورهم ومصالح دنياهم وآخرتهم .

                [ ص: 17 ] وحقيقة ذلك يرجع إلى تمثيل الشيء بنظيره وإدراج الجزئي تحت الكلي وذاك يسمى قياس التمثيل ; وهذا يسمى قياس الشمول وهما متلازمان فإن القدر المشترك بين الأفراد في قياس الشمول الذي يسميه المنطقيون الحد الأوسط هو القدر المشترك في قياس التمثيل الذي يسميه الأصوليون الجامع ; والمناط ; والعلة ; والأمارة ; والداعي والباعث ; والمقتضي ; والموجب ; والمشترك ; وغير ذلك من العبارات .

                وأما تخريج المناط وهو : القياس المحض وهو : أن ينص على حكم في أمور قد يظن أنه يختص الحكم بها فيستدل على أن غيرها مثلها إما لانتفاء الفارق ; أو للاشتراك في الوصف الذي قام الدليل على أن الشارع علق الحكم به في الأصل ; فهذا هو القياس الذي تقر به جماهير العلماء وينكره نفاة القياس . وإنما يكثر الغلط فيه لعدم العلم بالجامع المشترك الذي علق الشارع الحكم به وهو الذي يسمى سؤال المطالبة وهو : مطالبة المعترض للمستدل بأن الوصف المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم ; أو دليل العلة . فأكثر غلط القائسين من ظنهم علة في الأصل ما ليس بعلة ولهذا كثرت شناعاتهم على أهل القياس الفاسد . فأما إذا قام دليل على إلغاء الفارق وأنه ليس بين الأصل والفرع فرق يفرق الشارع لأجله بين الصورتين ; أو قام [ ص: 18 ] الدليل على أن المعنى الفلاني هو الذي لأجله حكم الشارع بهذا الحكم في الأصل وهو موجود في صورة أخرى ; فهذا القياس لا ينازع فيه إلا من لم يعرف هاتين المقدمتين .

                وبسط هذا له موضع آخر .

                والمقصود هنا : أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم شاملة للثقلين : الإنس والجن على اختلاف أجناسهم فلا يظن أنه خص العرب بحكم من الأحكام أصلا بل إنما علق الأحكام باسم مسلم وكافر ; ومؤمن ومنافق ; وبر وفاجر ; ومحسن وظالم ; وغير ذلك من الأسماء المذكورة في القرآن والحديث وليس في القرآن ولا الحديث تخصيص العرب بحكم من أحكام الشريعة ولكن بعض العلماء ظن ذلك في بعض الأحكام وخالفه الجمهور كما ظن طائفة منهم أبو يوسف أنه خص العرب بأن لا يسترقوا وجمهور المسلمين على أنهم يسترقون كما صحت بذلك الأحاديث الصحيحة حيث استرق بني المصطلق وفيهم جويرية بنت الحارث ثم أعتقها وتزوجها وأعتق بسببها من استرق من قومها .

                وقال في حديث هوازن : { اختاروا إحدى الطائفتين : إما السبي ; وإما المال } وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من قال : لا إله إلا الله وحده [ ص: 19 ] لا شريك له ; له الملك وله الحمد ; وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل } .

                وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة أنه { كانت سبية من سبي هوازن عند عائشة فقال : أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل } وعامة من استرقه الرسول صلى الله عليه وسلم من النساء والصبيان كانوا عربا وذكر هذا يطول .

                ولكن عمر بن الخطاب لما رأى كثرة السبي من العجم واستغناء الناس عن استرقاق العرب رأى أن يعتقوا العرب من باب مشورة الإمام وأمره بالمصلحة ; لا من باب الحكم الشرعي الذي يلزم الخلق كلهم فأخذ من أخذ بما ظنه من قول عمر وكذلك ظن من ظن أن الجزية لا تؤخذ من مشركي العرب مع كونها تؤخذ من سائر المشركين .

                وجمهور العلماء على أنه لا يفرق بين العرب وغيرهم . ثم منهم من يجوز أخذها من كل مشرك ومنهم من لا يأخذها إلا من أهل الكتاب والمجوس ; وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ الجزية من مشركي العرب وأخذها من المجوس وأهل الكتاب .

                فمن قال : تؤخذ من كل كافر . قال : إن آية الجزية لما نزلت [ ص: 20 ] أسلم مشركو العرب فإنها نزلت عام تبوك ولم يبق عربي مشرك محاربا ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليغزو النصارى عام تبوك بجميع المسلمين - إلا من عذر الله - ويدع الحجاز وفيه من يحاربه ويبعث أبا بكر عام تسع فنادى في الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ونبذ العهود المطلقة وأبقى المؤقتة ما دام أهلها موفين بالعهد كما أمر الله بذلك في أول سورة التوبة وأنظر الذين نبذ إليهم أربعة أشهر وأمر عند انسلاخها بغزو المشركين كافة قالوا : فدان المشركون كلهم كافة بالإسلام ولم يرض بذل أداء الجزية لأنه لم يكن لمشركي العرب من الدين بعد ظهور دين الإسلام ما يصبرون لأجله على أداء الجزية عن يد وهم صاغرون ; إذ كان عامة العرب قد أسلموا فلم يبق لمشركي العرب عز يعتزون به فدانوا بالإسلام حيث أظهره الله في العرب بالحجة والبيان والسيف والسنان .

                وقول النبي صلى الله عليه وسلم { أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ; ويؤتوا الزكاة } مراده قتال المحاربين الذين أذن الله في قتالهم لم يرد قتال المعاهدين الذين أمر الله بوفاء عهدهم . وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول " براءة " يعاهد من عاهده من الكفار [ ص: 21 ] من غير أن يعطي الجزية عن يد فلما أنزل الله براءة وأمره بنبذ العهود المطلقة لم يكن له أن يعاهدهم كما كان يعاهدهم بل كان عليه أن يجاهد الجميع كما قال : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم } .

                وكان دين أهل الكتاب خيرا من دين المشركين ومع هذا فأمروا بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فإذا كان أهل الكتاب لا تجوز معاهدتهم كما كان ذلك قبل نزول براءة فالمشركون أولى بذلك أن لا تجوز معاهدتهم بدون ذلك .

                قالوا : فكان في تخصيص أهل الكتاب بالذكر تنبيها بطريق الأولى على ترك معاهدة المشركين بدون الصغار والجزية ; كما كان يعاهدهم في مثل هدنة الحديبية وغير ذلك من المعاهدات .

                قالوا : وقد ثبت في الصحيح من حديث بريدة قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال : اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم [ ص: 22 ] وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك ; فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا } .

                قالوا : ففي الحديث أمره لمن أرسله أن يدعو الكفار إلى الإسلام ثم إلى الهجرة إلى الأمصار وإلا فإلى أداء الجزية وإن لم يهاجروا كانوا كأعراب المسلمين والأعراب عامتهم كانوا مشركين فدل على أنه دعا إلى أداء الجزية من حاصره من المشركين وأهل الكتاب . والحصون كانت باليمن كثيرة بعد نزول آية الجزية وأهل اليمن كان [ ص: 23 ] فيهم مشركون وأهل كتاب وأمر معاذا أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عد له معافريا ولم يميز بين المشركين وأهل الكتاب فدل ذلك على أن المشركين من العرب آمنوا كما آمن من آمن من أهل الكتاب ومن لم يؤمن من أهل الكتاب أدى الجزية .

                وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا وأسلمت عبد القيس وغيرهم من أهل البحرين طوعا ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب الجزية على أحد من اليهود بالمدينة ولا بخيبر ; بل حاربهم قبل نزول آية الجزية وأقر اليهود بخيبر فلاحين بلا جزية إلى أن أجلاهم عمر ; لأنهم كانوا مهادنين له وكانوا فلاحين في الأرض فأقرهم لحاجة المسلمين إليهم ثم أمر بإجلائهم قبل موته وأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب فقيل : هذا الحكم مخصوص بجزيرة العرب وقيل : بل هو عام في جميع أهل الذمة إذا استغنى المسلمون عنهم أجلوهم من ديار الإسلام ; وهذا قول ابن جرير وغيره . ومن قال : إن الجزية لا تؤخذ من مشرك قال : إن آية الجزية نزلت والمشركون موجودون فلم يأخذها منهم .

                والمقصود أنه لم يخص العرب بحكم وإن قيل : إنه خص جزيرة العرب التي هي حول المسجد الحرام كما خص المسجد الحرام بقوله : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } .

                [ ص: 24 ] وكذلك من قال من العلماء : إنه حرم على جميع المسلمين ما تستخبثه العرب وأحل لهم ما تستطيبه . فجمهور العلماء على خلاف هذا القول كمالك وأبي حنيفة وأحمد وقدماء أصحابه ولكن الخرقي وطائفة منهم وافقوا الشافعي على هذا القول وأما أحمد نفسه فعامة نصوصه موافقة لقول جمهور العلماء وما كان عليه الصحابة والتابعون أن التحليل والتحريم لا يتعلق باستطابة العرب ولا باستخباثهم ; بل كانوا يستطيبون أشياء حرمها الله ; كالدم والميتة ; والمنخنقة والموقوذة ; والمتردية والنطيحة ; وأكيلة السبع ; وما أهل به لغير الله وكانوا - بل خيارهم - يكرهون أشياء لم يحرمها الله حتى لحم الضب كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه وقال : { لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه } وقال مع هذا : " إنه ليس بمحرم " وأكل على مائدته وهو ينظر وقال فيه : " لا آكله ولا أحرمه " .

                وقال جمهور العلماء : الطيبات التي أحلها الله ما كان نافعا لآكله في دينه والخبيث ما كان ضارا له في دينه .

                وأصل الدين العدل الذي بعث الله الرسل بإقامته فما أورث الأكل بغيا وظلما حرمه كما حرم كل ذي ناب من السباع . لأنها باغية عادية والغاذي شبيه بالمغتذي فإذا تولد اللحم منها صار في الإنسان خلق البغي والعدوان .

                [ ص: 25 ] وكذلك الدم يجمع قوى النفس من الشهوة والغضب فإذا اغتذى منه زادت شهوته وغضبه على المعتدل ولهذا لم يحرم منه إلا المسفوح بخلاف القليل فإنه لا يضر .

                ولحم الخنزير يورث عامة الأخلاق الخبيثة ; إذ كان أعظم الحيوان في أكل كل شيء لا يعاف شيئا والله لم يحرم على أمة محمد شيئا من الطيبات وإنما حرم ذلك على أهل الكتاب كما قال تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وقال تعالى : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون } .

                وأما المسلمون فلم يحرم عليهم إلا الخبائث كالدم المسفوح فأما غير المسفوح كالذي يكون في العروق فلم يحرمه بل ذكرت عائشة أنهم كانوا يضعون اللحم في القدر فيرون آثار الدم في القدر ; ولهذا عفا جمهور الفقهاء عن الدم اليسير في البدن والثياب إذا كان غير مسفوح وإذا عفي عنه في الأكل ففي اللباس والحمل أولى أن يعفى عنه .

                وكذلك ريق الكلب يعفى عنه عند جمهور العلماء في الصيد كما هو [ ص: 26 ] مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أظهر القولين في مذهبه وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي وإن وجب غسل الإناء من ولوغه عند جمهورهم . إذ كان الريق في الولوغ كثيرا ساريا في المائع لا يشق الاحتراز منه بخلاف ما يصيب الصيد فإنه قليل ناشف في جامد يشق الاحتراز منه .

                وكذلك التقديم في إمامة الصلاة بالنسب لا يقول به أكثر العلماء وليس فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بل الذي ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا } فقدمه صلى الله عليه وسلم بالفضيلة العلمية ثم بالفضيلة العملية وقدم العالم بالقرآن على العالم بالسنة ثم الأسبق إلى الدين باختياره ثم الأسبق إلى الدين بسنه ولم يذكر النسب .

                وبهذا أخذ أحمد وغيره فرتب الأئمة كما رتبهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر النسب وكذلك أكثر العلماء كمالك وأبي حنيفة لم يرجحوا بالنسب ولكن رجح به الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد ; كالخرقي وابن حامد والقاضي وغيرهم واحتجوا بقول سلمان [ ص: 27 ] الفارسي : إن لكم علينا معشر العرب ألا نؤمكم في صلاتكم ولا ننكح نساءكم .

                والأولون يقولون : إنما قال سلمان هذا تقديما منه للعرب على الفرس كما يقول الرجل لمن هو أشرف منه : حقك علي كذا وليس قول سلمان حكما شرعيا يلزم جميع الخلق اتباعه كما يجب عليهم اتباع أحكام الله ورسوله ولكن من تأسى من الفرس بسلمان فله به أسوة حسنة ; فإن سلمان سابق الفرس .

                وكذلك اعتبار النسب في أهل الكتاب ليس هو قول أحد من الصحابة ولا يقول به جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه ولكن طائفة منهم ذكرت عنه روايتان واختار بعضهم اعتبار النسب موافقة للشافعي والشافعي أخذ ذلك عن عطاء وبسط هذا له موضع آخر .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية