الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 155 ] بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام العالم تقي الدين أوحد المجتهدين أحمد ابن تيمية - قدس الله روحه ونور ضريحه الحمد لله نحمده ونستعينه ; ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ; ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما .

                فصل في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين جميع الدين أصوله وفروعه ; باطنه وظاهره علمه وعمله فإن هذا الأصل هو أصل [ ص: 156 ] أصول العلم والإيمان وكل من كان أعظم اعتصاما بهذا الأصل كان أولى بالحق علما وعملا ومن كان أبعد عن الحق علما وعملا : كالقرامطة والمتفلسفة الذين يظنون : أن الرسل ما كانوا يعلمون حقائق العلوم الإلهية والكلية وإنما يعرف ذلك بزعمهم من يعرفه من المتفلسفة ويقولون : خاصة النبوة هي التخييل ويجعلون النبوة أفضل من غيرها عند الجمهور لا عند أهل المعرفة كما يقول هذا ونحوه الفارابي وأمثاله مثل مبشر ابن فاتك وأمثاله من الإسماعيلية .

                وآخرون يعترفون بأن الرسول علم الحقائق لكن يقولون : لم يبينها بل خاطب الجمهور بالتخييل فيجعلون التخييل في خطابه لا في علمه كما يقول ذلك ابن سينا وأمثاله .

                وآخرون يعترفون بأن الرسل علموا الحق وبينوه لكن يقولون : لا يمكن معرفته من كلامهم بل يعرف بطريق آخر : إما المعقول عند طائفة ; وإما المكاشفة عند طائفة ; إما قياس فلسفي ; وإما خيال صوفي . ثم بعد ذلك ينظر في كلام الرسول فما وافق ذلك قبل وما خالفه ; إما أن يفوض ; وإما أن يؤول . وهذه طريقة كثير من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة ; وهي طريقة خيار الباطنية والفلاسفة الذين يعظمون الرسول وينزهونه عن الجهل والكذب لكن يدخلون في التأويل .

                [ ص: 157 ] وأبو حامد الغزالي لما ذكر في كتابه طرق الناس في التأويل ; وأن الفلاسفة زادوا فيه حتى انحلوا ; وإن الحق بين جمود الحنابلة وبين انحلال الفلاسفة ; وأن ذلك لا يعرف من جهة السمع بل تعرف الحق بنور يقذف في قلبك ; ثم ينظر في السمع : فما وافق ذلك قبلته وإلا فلا . وكان مقصوده بالفلاسفة المتأولين خيار الفلاسفة وهم الذين يعظمون الرسول عن أن يكذب للمصلحة ولكن هؤلاء وقعوا في نظير ما فروا منه نسبوه إلى التلبيس والتعمية وإضلال الخلق بل إلى أن يظهر الباطل ويكتم الحق .

                وابن سينا وأمثاله لما عرفوا أن كلام الرسول لا يحتمل هذه التأويلات الفلسفية ; بل قد عرفوا أنه أراد مفهوم الخطاب : سلك مسلك التخييل وقال : إنه خاطب الجمهور بما يخيل إليهم ; مع علمه أن الحق في نفس الأمر ليس كذلك . فهؤلاء يقولون : إن الرسل كذبوا للمصلحة .

                وهذا طريق ابن رشد الحفيد وأمثاله من الباطنية فالذين عظموا الرسل من هؤلاء عن الكذب نسبوهم إلى التلبيس والإضلال والذين أقروا بأنهم بينوا الحق قالوا : إنهم كذبوا للمصلحة .

                وأما أهل العلم والإيمان فمتفقون على أن الرسل لم يقولوا إلا [ ص: 158 ] الحق وأنهم بينوه مع علمهم بأنهم أعلم الخلق بالحق فهم الصادقون المصدوقون علموا الحق وبينوه فمن قال : إنهم كذبوا للمصلحة فهو من إخوان المكذبين للرسل لكن هذا لما رأى ما عملوا من الخير والعدل في العالم لم يمكنه أن يقول : كذبوا لطلب العلو والفساد بل قال : كذبوا لمصلحة الخلق . كما يحكى عن ابن التومرت وأمثاله .

                ولهذا كان هؤلاء لا يفرقون بين النبي والساحر إلا من جهة حسن القصد فإن النبي يقصد الخير والساحر يقصد الشر وإلا فلكل منهما خوارق هي عندهم قوى نفسانية وكلاهما عندهم يكذب ; لكن الساحر يكذب للعلو والفساد والنبي عندهم يكذب للمصلحة ; إذ لم يمكنه إقامة العدل فيهم إلا بنوع من الكذب .

                والذين علموا أن النبوة تناقض الكذب على الله وأن النبي لا يكون إلا صادقا من هؤلاء قالوا : إنهم لم يبينوا الحق ولو أنهم قالوا : سكتوا عن بيانه لكان أقل إلحادا لكن قالوا : إنهم أخبروا بما يظهر منه للناس الباطل ولم يبينوا لهم الحق فعندهم أنهم جمعوا بين شيئين : بين كتمان حق لم يبينوه ; وبين إظهار ما يدل على الباطل وإن كانوا لم يقصدوا الباطل فجعلوا كلامهم من جنس المعاريض التي يعني بها المتكلم معنى صحيحا لكن لا يفهم المستمع منها إلا الباطل . وإذا قالوا : قصدوا التعريض كان أقل إلحادا ممن قال : إنهم قصدوا الكذب .

                [ ص: 159 ] والتعريض نوع من الكذب ; إذ كان كذبا في الأفهام ; ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله } وهي معاريض كقوله عن سارة : إنها أختي ; إذ كان ليس هناك مؤمن إلا هو وهي .

                وهؤلاء يقولون : إن كلام إبراهيم وعامة الأنبياء مما أخبروا به عن الغيب كذب من المعاريض .

                وأما جمهور المتكلمين فلا يقولون بهذا بل يقولون : قصدوا البيان دون التعريض . لكن مع هذا يقول الجهمية ونحوهم : إن بيان الحق ليس في خطابهم بل إنما في خطابهم ما يدل على الباطل . والمتكلمون من الجهمية والمعتزلة والأشعرية ونحوهم ممن سلك في إثبات الصانع طريق الأعراض يقولون : إن الصحابة لم يبينوا أصول الدين بل ولا الرسول : إما لشغلهم بالجهاد ; أو لغير ذلك .

                وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع وبينا أن أصول الدين الحق الذي أنزل الله به كتابه وأرسل به رسوله وهي الأدلة والبراهين والآيات الدالة على ذلك : قد بينها الرسول أحسن بيان وأنه دل الناس وهداهم إلى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية التي بها يعلمون المطالب الإلهية وبها يعلمون إثبات ربوبية الله ووحدانيته [ ص: 160 ] وصفاته وصدق رسوله والمعاد وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته بالأدلة العقلية بل وما يمكن بيانه بالأدلة العقلية وإن كان لا يحتاج إليها ; فإن كثيرا من الأمور تعرف بالخبر الصادق ومع هذا فالرسول بين الأدلة العقلية الدالة عليها ; فجمع بين الطريقين : السمعي ; والعقلي .

                وبينا أن دلالة الكتاب والسنة على أصول الدين ليست بمجرد الخبر ; كما تظنه طائفة من الغالطين من أهل الكلام والحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم بل الكتاب والسنة دلا الخلق وهدياهم إلى الآيات والبراهين والأدلة المبينة لأصول الدين وهؤلاء الغالطون الذين أعرضوا عما في القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية صاروا إذا صنفوا في أصول الدين أحزابا : حزب : يقدمون في كتبهم الكلام في النظر والدليل والعلم وأن النظر يوجب العلم وأنه واجب ويتكلمون في جنس النظر وجنس الدليل وجنس العلم بكلام قد اختلط فيه الحق بالباطل ثم إذا صاروا إلى ما هو الأصل والدليل للذين استدلوا بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام وهو دليل مبتدع في الشرع وباطل في العقل .

                والحزب الثاني : عرفوا أن هذا الكلام مبتدع وهو مستلزم مخالفة الكتاب والسنة وعنه ينشأ القول بأن القرآن مخلوق وأن [ ص: 161 ] الله لا يرى في الآخرة وليس فوق العرش ونحو ذلك من بدع الجهمية فصنفوا كتبا قدموا فيها ما يدل على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة من القرآن والحديث وكلام السلف وذكروا أشياء صحيحة لكنهم قد يخلطون الآثار صحيحها بضعيفها وقد يستدلون بما لا يدل على المطلوب .

                وأيضا فهم إنما يستدلون بالقرآن من جهة إخباره لا من جهة دلالته فلا يذكرون ما فيه من الأدلة على إثبات الربوبية والوحدانية والنبوة والمعاد ; وأنه قد بين الأدلة العقلية الدالة على ذلك ; ولهذا سموا كتبهم أصول السنة والشريعة ونحو ذلك وجعلوا الإيمان بالرسول قد استقر فلا يحتاج أن يبين الأدلة الدالة عليه فذمهم أولئك ونسبوهم إلى الجهل ; إذ لم يذكروا الأصول الدالة على صدق الرسول ; وهؤلاء ينسبون أولئك إلى البدعة بل إلى الكفر لكونهم أصلوا أصولا تخالف ما قاله الرسول .

                والطائفتان يلحقهما الملام ; لكونهما أعرضتا عن الأصول التي بينها الله بكتابه فإنها أصول الدين وأدلته وآياته فلما أعرض عنها الطائفتان وقع بينهما العداوة ; كما قال الله تعالى : { فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } .

                [ ص: 162 ] وحزب ثالث : قد عرف تفريط هؤلاء وتعدي أولئك وبدعتهم فذمهم وذم طالب العلم الذكي الذي اشتاقت نفسه إلى معرفة الأدلة والخروج عن التقليد إذا سلك طريقهم وقال : إن طريقهم ضارة وأن السلف لم يسلكوها ونحو ذلك مما يقتضي ذمها وهو كلام صحيح لكنه إنما يدل على أمر مجمل لا تتبين دلالته على المطلوب بل قد يعتقد طريق المتكلمين مع قوله : إنه بدعة ولا يفتح أبواب الأدلة التي ذكرها الله في القرآن التي تبين أن ما جاء به الرسول حق ويخرج الذكي بمعرفتها عن التقليد وعن الضلال والبدعة والجهل .

                فهؤلاء أضل بفرقهم ; لأنهم لم يتدبروا القرآن وأعرضوا عن آيات الله التي بينها بكتابه كما يعرض من يعرض عن آيات الله المخلوقة قال الله تعالى : { وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون } وقال تعالى : { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } وقال تعالى : { إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون } { أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون } وقال تعالى : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب } وقال تعالى : { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } وقال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } { بالبينات والزبر } الآية وقال [ ص: 163 ] تعالى : { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } وقال تعالى : { وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير } ومثل هذا كثير لبسطه مواضع أخر .

                والمقصود أن هؤلاء الغالطين الذين أعرضوا ما في القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية لا يذكرون النظر والدليل والعلم الذي جاء به الرسول والقرآن مملوء من ذلك والمتكلمون يعترفون بأن في القرآن من الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين ما فيه لكنهم يسلكون طرقا أخر كطريق الأعراض .

                ومنهم من يظن أن هذه طريق إبراهيم الخليل وهو غالط .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية