الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                في بيان أصل فرضيتها ، وفي بيان عددها ، وفي بيان عدد ركعاتها ، وفي بيان أركانها ، وفي بيان شرائط الأركان ، وفي بيان واجباتها ، وفي بيان سننها ، وفي بيان ما يستحب فعله وما يكره فيها ، وفي بيان ما يفسدها ، وفي بيان حكمها ; إذا فسدت ; أو فاتت عن أوقاتها ; أو فات شيء من صلاة من هذه الصلوات عن الجماعة ; أو عن محله الأصلي ، ونذكره في آخر الصلاة أما فرضيتها فثابتة بالكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والمعقول .

                                                                                                                                ( أما ) الكتاب فقوله : تعالى في غير موضع من القرآن : { أقيموا الصلاة } وقوله : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } أي فرضا مؤقتا .

                                                                                                                                وقوله تعالى : و { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } ، ومطلق اسم الصلاة ينصرف إلى الصلوات المعهودة وهي التي تؤدى في كل يوم وليلة .

                                                                                                                                وقوله تعالى : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } الآية يجمع الصلوات الخمس لأن صلاة الفجر تؤدى في أحد طرفي النهار ، وصلاة الظهر والعصر يؤديان في الطرف الآخر إذ النهار قسمان : غداة وعشي ، والغداة : اسم لأول النهار إلى وقت الزوال وما بعده العشي ، حتى أن من حلف لا يأكل العشي فأكل بعد الزوال يحنث ; فدخل في طرفي النهار ثلاث صلوات ، ودخل في قوله { وزلفا من الليل } المغرب ، والعشاء لأنهما يؤديان في زلف من الليل وهي ساعاته .

                                                                                                                                وقوله : { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر } وقيل : دلوك الشمس : زوالها ، وغسق الليل : أول ظلمته فيدخل فيه صلاة الظهر والعصر .

                                                                                                                                وقوله : وقرآن الفجر : أي وأقم قرآن الفجر ، وهو صلاة الفجر فثبتت فرضية ثلاث صلوات بهذه الآية ، وفرضية صلاتي المغرب والعشاء ثبتت بدليل آخر .

                                                                                                                                وقيل دلوك الشمس غروبها فيدخل فيه صلاة المغرب والعشاء ، وتدخل صلاة الفجر في قوله : وقرآن الفجر ، وفرضية صلاة الظهر والعصر ثبتت بدليل آخر وقوله تعالى { فسبحان الله حين تمسون ، وحين تصبحون ، وله الحمد في السموات والأرض ، وعشيا ، وحين تظهرون } .

                                                                                                                                وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : حين تمسون : المغرب والعشاء ، وحين تصبحون : الفجر ، وعشيا : العصر ، وحين تظهرون : الظهر ذكر التسبيح وأراد به الصلاة أي صلوا لله إما لأن التسبيح من لوازم الصلاة ، أو لأنه تنزيه ، والصلاة من أولها إلى آخرها تنزيه الرب - عز وجل - لما فيها من إظهار الحاجات إليه وإظهار العجز والضعف .

                                                                                                                                وفيه وصف له بالجلال ، والعظمة ، والرفعة ، والتعالي عن الحاجة قال الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي : إنهم فهموا من هذه الآية فرضية الصلوات الخمس .

                                                                                                                                ولو كانت [ ص: 90 ] أفهامهم مثل أفهام أهل زماننا لما فهموا منها سوى التسبيح المذكور .

                                                                                                                                وقوله تعالى { فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى } قيل في تأويل قوله فسبح ، أي فصل قبل طلوع الشمس : هو صلاة الصبح ، وقبل غروبها هو : صلاة الظهر والعصر ، ومن آناء الليل : صلاة المغرب والعشاء ، وقوله : وأطراف النهار على التكرار والإعادة تأكيدا كما في قوله تعالى : { حافظوا على الصلوات ، والصلاة الوسطى } ذكر الصلاة الوسطى على التأكيد لدخولها تحت اسم الصلوات ، كذا ههنا .

                                                                                                                                وقوله تعالى { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال } قيل الذكر والتسبيح ههنا هما الصلاة ، وقيل : الذكر : سائر الأذكار ، والتسبيح : الصلاة .

                                                                                                                                وقوله : بالغدو : صلاة الغداة ، والآصال : صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وقيل : الآصال هو : صلاة العصر ، ويحتمل العصر والظهر لأنهما يؤديان في الأصيل ، وهو العشي ، وفرضية المغرب والعشاء عرفت بدليل آخر ( وأما ) السنة فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عام حجة الوداع { : اعبدوا ربكم ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وحجوا بيت ربكم ، وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم ، تدخلوا جنة ربكم } .

                                                                                                                                وروي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { إن الله تعالى فرض على عباده المؤمنين في كل يوم وليلة خمس صلوات } وعن عبادة أيضا أنه رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد فمن أتى بهن ولم يضيع من حقهن شيئا استخفافا بحقهن ; فإن له عند الله عهدا أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن ; فليس له عند الله عهد ، إن شاء عذبه ; وإن شاء أدخله الجنة } ، وعليه إجماع الأمة ; فإن الأمة أجمعت على فرضية هذه الصلوات .

                                                                                                                                وأما المعقول : فمن وجوه : أحدها : أن هذه الصلوات إنما وجبت شكرا للنعم منها : نعمة الخلقة ; حيث فضل الجوهر الإنسي بالتصوير على أحسن صورة ، وأحسن تقويم كما قال تعالى { : وصوركم فأحسن صوركم } وقال { : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } حتى لا ترى أحدا يتمنى أن يكون على غير هذا التقويم ، والصورة التي أنشئ عليها ومنها : نعمة سلامة الجوارح عن الآفات إذ بها يقدر على إقامة مصالحه ، أعطاه الله ذلك كله إنعاما محضا من غير أن يسبق منه ما يوجب استحقاق شيء من ذلك ، فأمر باستعمال هذه النعمة في خدمة المنعم شكرا لما أنعم ، إذ شكر النعمة : استعمالها في خدمة المنعم ثم الصلاة تجمع استعمال جميع الجوارح الظاهرة من القيام ، والركوع ، والسجود ، والقعود ووضع اليد مواضعها وحفظ العين ، وكذا الجوارح الباطنة من شغل القلب بالنية ، وإشعاره بالخوف ، والرجاء ، وإحضار الذهن ، والعقل بالتعظيم ، والتبجيل ; ليكون عمل كل عضو شكرا لما أنعم عليه في ذلك ومنها : نعمة المفاصل اللينة ، والجوارح المنقادة التي بها يقدر على استعمالها في الأحوال المختلفة ; من القيام ، والقعود ، والركوع والسجود والصلاة تشتمل على هذه الأحوال فأمرنا باستعمال هذه النعم الخاصة في هذه الأحوال في خدمة المنعم ; شكرا لهذه النعمة ، وشكر النعمة فرض عقلا وشرعا ومنها : أن الصلاة - وكل عبادة - خدمة الرب جل جلاله ، وخدمة المولى على العبد لا تكون إلا فرضا ، إذ التبرع من العبد على مولاه محال ، والعزيمة هي شغل جميع الأوقات بالعبادات بقدر الإمكان ، وانتفاء الحرج إلا أن الله تعالى بفضله وكرمه جعل لعبده أن يترك الخدمة في بعض الأوقات رخصة حتى لو شرع لم يكن له الترك ; لأنه إذا شرع فقد اختار العزيمة ، وترك الرخصة ; فيعود حكم العزيمة ، يحقق ما ذكرنا : أن العبد لا بد له من إظهار سمة العبودية ; ليخالف به من استعصى مولاه ، وأظهر الترفع عن العبادة ، وفي الصلاة إظهار سمة العبودية ; لما فيها من القيام بين يدي المولى جل جلاله ، وتحنية الظهر له ، وتعفير الوجه بالأرض ، والجثو على الركبتين ، والثناء عليه ، والمدح له .

                                                                                                                                ومنها : أنها مانعة للمصلي عن ارتكاب المعاصي ; لأنه إذا أقام بين يدي ربه خاشعا متذللا مستشعرا هيبة الرب جل جلاله خائفا تقصيره في عبادته كل يوم خمس مرات عصمه ذلك عن اقتحام المعاصي والامتناع عن المعصية فرض وذلك قوله تعالى { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات } وقوله تعالى { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } ومنها : أنها جعلت مكفرة للذنوب والخطايا والزلات والتقصير ، إذ العبد في أوقات [ ص: 91 ] ليله ونهاره لا يخلو عن ذنب ، أو خطأ ، أو زلة ، أو تقصير في العبادة ، والقيام بشكر النعمة ، وإن جل قدره وخطره عند الله تعالى ; إذ قد سبق إليه من الله تعالى من النعم ، والإحسان ما لو أخذ بشكر ذلك لم يقدر على أداء شكر واحدة منها ، فضلا عن أن يؤدي شكر الكل ; فيحتاج إلى تكفير ذلك ، إذ هو فرض ففرضت الصلوات الخمس تكفيرا لذلك .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية