الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 267 ] لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم

جملة في موضع التعليل لجملة كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون . أي دل على أنا سخرناها لكم لتشكروني أنه لا انتفاع لله بشيء من لحومها ولا دمائها حين تتمكنون من الانتفاع بها فلا يريد الله منكم على ذلك إلا أن تتقوه .

والنيل : الإصابة . يقال ناله . أي أصابه ووصل إليه . ويقال أيضا بمعنى أحرز ، فإن فيه معنى الإصابة كقوله تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وقوله وهموا بما لم ينالوا . والمقصود من نفي أن يصل إلى الله لحومها ودماؤها إبطال ما يفعله المشركون من نضح الدماء في المذابح وحول الكعبة وكانوا يذبحون بالمروة . قال الحسن : كانوا يلطخون بدماء القرابين وكانوا يشرحون لحوم الهدايا وينصبونها حول الكعبة قربانا لله تعالى . يعني زيادة على ما يعطونه للمحاويج . وفي قوله لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم إيماء إلى أن إراقة الدماء وتقطيع اللحوم ليسا مقصودين بالتعبد ولكنهما وسيلة لنفع الناس بالهدايا إذ لا ينفع بلحومها وجلودها وأجزائها إلا بالنحر أو الذبح وأن المقصد من شرعها انتفاع الناس المهدين وغيرهم .

فأما المهدون فانتفاعهم بالأكل منها في يوم عيدهم كما قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - في تحريم صيام يوم النحر [ ص: 268 ] يوم تأكلون فيه من نسككم فذلك نفع لأنفسهم ولأهاليهم ولو بالادخار منه إلى رجوعهم إلى آفاقهم . وأما غيرهم فانتفاع من ليس له هدي من الحجيج بالأكل مما يهديه إليهم أقاربهم وأصحابهم ، وانتفاع المحاويج من أهل الحرم بالشبع والتزود منها والانتفاع بجلودها وجلالها وقلائدها . كما أومأ إليه قوله تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد . وقد عرض غير مرة سؤال عما إذا كانت الهدايا أوفر من حاجة أهل الموسم قطعا أو ظنا قريبا من القطع كما شوهد ذلك في مواسم الحج ، فما يبقى منها حيا يباع وينفق ثمنه في سد خلة المحاويج أجدى من نحره أو ذبحه حين لا يرغب فيه أحد . ولو كانت اللحوم التي فات أن قطعت وكانت فاضلة عن حاجة المحاويج يعمل تصبيرها بما يمنع عنها التعفن فينفع بها في خلال العام أجدى للمحاويج . وقد ترددت في الجواب عن ذلك أنظار المتصدين للإفتاء من فقهاء هذا العصر ، وكادوا أن تتفق كلمات من صدرت منهم فتاوى على أن تصبيرها مناف للتعبد بهديها .

أما أنا فالذي أراه أن المصير إلى كلا الحالين من البيع والتصبير لما فضل عن حاجة الناس في أيام الحج . لينتفع بها المحتاجون في عامهم ، أوفق بمقصد الشارع تجنبا لإضاعة ما فضل منها رعيا لمقصد الشريعة من نفع المحتاج وحفظ الأموال مع عدم تعطيل النحر والذبح للقدر المحتاج إليه منها المشار إليه بقوله تعالى فاذكروا اسم الله عليها صواف وقوله كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم ، جمعا بين المقاصد الشرعية . [ ص: 269 ] وتعرض صورة أخرى وهي توزيع المقادير الكافية للانتفاع بها على أيام النحر الثلاثة بحيث لا يتعجل بنحر جميع الهدايا في اليوم الأول طلبا لفضيلة المبادرة . فإن التقوى التي تصل إلى الله من تلك الهدايا هي تسليمها للنفع بها . وهذا قياس على أصل حفظ الأموال كما فرضوه في بيع الفرس الحبس إذا أصابه ما يفضي به إلى الهلاك أو عدم النفع ، وفي المعاوضة لريع الحبس إذا خرب . وحكم الهدايا مركب من تعبد وتعليل . ومعنى التعليل فيه أقوى . وعلته انتفاع المسلمين ، ومسلك العلة الإيماء الذي في قوله تعالى فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر .

واعلم أن توهم التقرب بتلطيخ دماء القرابين وانتفاع المتقرب إليه بتلك الدماء عقيدة وثنية قديمة فربما كانوا يطرحون ما يتقربون به من لحم وطعام فلا يدعون أحدا يأكله . وكان اليونان يشوون لحوم القرابين على النار حتى تصير رمادا ويتوهمون أن رائحة الشواء تسر الآلهة المتقرب إليها بالقرابين . وكان المصريون يلقون الطعام للتماسيح التي في النيل لأنها مقدسة .

وقرأ الجمهور ( ينال ) ، و ( يناله ) بتحتية في أولهما . وقرأه يعقوب بفوقية على مراعاة ما يجوز في ضمير جمع غير العاقل ، وربما كانوا يقذفون بمزع من اللحم على أنها لله فربما أصابها محتاج وربما لم يتفطن لها فتأكلها السباع أو تفسد .

ويشمل التقوى ذكر اسم الله عليها والتصدق ببعضها على المحتاجين . و ( يناله ) مشاكلة لـ ( ينال ) الأول ، استعير النيل لتعلق العلم . شبه علم الله تقواهم بوصول الشيء المبعوث إلى الله تشبيها وجهه الحصول في كل وحسنته المشاكلة . [ ص: 270 ] و ( من ) في قوله ( منكم ) ابتدائية . وهي ترشيح للاستعارة . ولذلك عبر بلفظ التقوى منكم دون : تقواكم أو التقوى مجردا مع كون المعدول عنه أوجز لأن في هذا الإطناب زيادة معنى من البلاغة .

التالي السابق


الخدمات العلمية