الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة

الفاء لتفريع الإخبار ؛ أي : لمجرد الترتيب اللفظي لا لتفريع حصول ما تضمنته الجملة المعطوفة بها على حصول ما تضمنته ما قبلها ، والمقصود بيان أن أخذ الولي بالقصاص المستفاد من صور كتب عليكم القصاص في القتلى ليس واجبا عليه ولكنه حق له فقط ، لئلا يتوهم من قوله : ( كتب عليكم ) أن الأخذ به واجب على ولي القتيل ، والتصدي لتفريع ذكر هذا بعد ذكر حق القصاص ؛ للإيماء إلى أن الأولى بالناس قبول الصلح استبقاء لأواصر أخوة [ ص: 141 ] الإسلام . قال الأزهري : هذه آية مشكلة ، وقد فسروها تفسيرا قربوه على قدر أفهام أهل عصرهم ثم أخذ الأزهري في تفسيرها بما لم يكشف معنى وما أزال إشكالا ، وللمفسرين مناح كثيرة في تفسير ألفاظها ، ذكر القرطبي خمسة منها ، وذكر في الكشاف تأويلا آخر ، وذكر الطيبي تأويلين راجعين إلى تأويل الكشاف ، واتفق جميعهم على أن القصد منها الترغيب في المصالحة عن الدماء ، وينبغي ألا نذهب بأفهام الناظر طرائق قددا ، فالقول الفصل أن نقول : إن ماصدق " من " في قوله : فمن عفي له هو ولي المقتول ، وإن المراد بأخيه هو القاتل ، وصف بأنه أخ تذكيرا بأخوة الإسلام ، وترقيقا لنفس ولي المقتول ؛ لأنه إذا اعتبر القاتل أخا له كان من المروءة ألا يرضى بالقود منه ؛ لأنه كمن رضي بقتل أخيه ، ولقد قال بعض العرب ، قتل أخوه ابنا له عمدا ، فقدم إليه ليقتاد منه فألقى السيف ، وقال :


أقول للنفس تأساء وتعزية إحدى يدي أصابتني ولم ترد     كلاهما خلف من فقد صاحبه
هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي

وماصدق ( شيء ) هو عوض الصلح ، ولفظ " شيء " اسم متوغل في التنكير ، دال على نوع ما يصلح له سياق الكلام ، وقد تقدم حسن موقع كلمة " شيء " عند قوله تعالى : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ، ومعنى عفي له من أخيه أنه أعطى العفو ؛ أي : الميسور على القاتل من عوض الصلح . ومن معاني العفو أنه الميسور من المال الذي لا يجحف بباذله ، وقد فسر به العفو من قوله تعالى : ( خذ العفو ) ، وإيثار هذا الفعل ؛ لأنه يؤذن بمراعاة التيسير والسماحة ، وهي من خلق الإسلام ، فهذا تأكيد للترغيب الذي دل عليه قوله : ( من أخيه ) والتعبير عن عوض الدم بشيء ؛ لأن العوض يختلف فقد يعرض على ولي الدم مال من ذهب أو فضة وقد يعرض عليه إبل أو عروض أو مقاصة دماء بين الحيين ؛ إذ ليس العوض في قتل العمد معينا ، كما هو في دية قتل الخطأ .

و ( اتباع ) و ( أداء ) مصدران وقعا عوضا عن فعلين ، والتقدير : فليتبع اتباعا وليؤد أداء ، فعدل عن أن ينصب على المفعولية المطلقة إلى الرفع لإفادة معنى الثبات ، والتحقيق الحاصل بالجملة الاسمية ، كما عدل إلى الرفع في قوله تعالى : ( قال سلام ) بعد قوله : ( قالوا سلاما ) وقد تقدم تطور المصدر الذي أصله مفعول مطلق إلى مصيره مرفوعا عند قوله تعالى : ( الحمد لله ) فنظم الكلام : فاتباع حاصل ممن عفي له من أخيه شيء وأداء [ ص: 142 ] حاصل من أخيه إليه ، وفي هذا تحريض لمن عفي له على أن يقبل ما عفي له ، وتحريض لأخيه على أداء ما بذله بإحسان .

والاتباع مستعمل في القبول والرضا ؛ أي : فليرض بما عفي له كقول النبيء صلى الله عليه وسلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع .

والضمير المقدر في " اتباع " عائد إلى ( من عفي له ) والضمير المقدر في " أداء " عائد إلى أخيه ، والمعنى : فليرض بما بذل له من الصلح المتيسر ، وليؤد باذل الصلح ما بذله دون مماطلة ولا نقص ، والضمير المجرور باللام والضمير المجرور بإلى عائدان على فمن عفي له .

ومقصد الآية الترغيب في الرضا بأخذ العوض عن دم القتيل بدلا من القصاص ؛ لتغيير ما كان أهل الجاهلية يتعيرون به من أخذ الصلح في قتل العمد ، ويعدونه بيعا لدم مولاهم ، كما قال مرة الفقعسي :


فلا تأخذوا عقلا من القوم إنني     أرى العار يبقى والمعاقل تذهب

وقال غيره يذكر قوما لم يقبلوا منه صلحا عن قتيل :


فلو أن حيا يقبل المال فدية     لسقنا لهم سيبا من المال مفعما
ولكن أبى قوم أصيب أخوهم     رضا العار فاختاروا على اللبن الدما

وهذا كله في العفو على قتل العمد ، وأما قتل الخطأ فإن شأنه الدية عن عاقلة القاتل ، وسيأتي في سورة النساء .

وإطلاق وصف الأخ على المماثل في دين الإسلام تأسيس أصل جاء به القرآن جعل به التوافق في العقيدة كالتوافق في نسب الأخوة ، وحقا فإن التوافق في الدين آصرة نفسانية ، والتوافق في النسب آصرة جسدية ، والروح أشرف من الجسد .

واحتج ابن عباس بهذه الآية على الخوارج في أن المعصية لا تزيل الإيمان ؛ لأن الله سمى القاتل أخا لولي الدم ، وتلك أخوة الإسلام مع كون القاتل عاصيا .

وقوله : ( بالمعروف ) المعروف : هو الذي تألفه النفوس وتستحسنه ، فهو مما تسر به النفوس ولا تشمئز منه ولا تنكره ، ويقال لضده منكر ، وسيأتي عند قوله تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر في سورة آل عمران .

[ ص: 143 ] والباء في قوله : ( بالمعروف ) للملابسة ؛ أي : فاتباع مصاحب للمعروف ؛ أي : رضا وقبول وحسن اقتضاء إن وقع مطل ، وقبول التنجيم إن سأله القاتل .

والأداء : الدفع وإبلاغ الحق ، والمراد به إعطاء مال الصلح ، وذكر متعلقه وهو قوله : ( إليه ) المؤذن بالوصول إليه والانتهاء إليه للإشارة إلى إبلاغ مال الصلح إلى المقتول بأن يذهب به إليه ولا يكلفه الحضور بنفسه لقبضه أو إرسال من يقبضه ، وفيه إشارة إلى أنه لا يمطله ، وزاد ذلك تقريرا بقوله : ( بإحسان ) أي : دون غضب ولا كلام كريه أو جفاء معاملة .

وقوله : ذلك تخفيف من ربكم إشارة إلى الحكم المذكور وهو قبول العفو وإحسان الأداء والعدول عن القصاص ، تخفيف من الله على الناس ، فهو رحمة منه أي : أثر رحمته ؛ إذ التخفيف في الحكم أثر الرحمة ، فالأخذ بالقصاص عدل ، والأخذ بالعفو رحمة .

ولما كانت مشروعية القصاص كافية في تحقيق مقصد الشريعة في شرع القصاص من ازدجار الناس عن قتل النفوس وتحقيق حفظ حق المقتول بكون الخيرة للولي ، كان الإذن في العفو إن تراضيا عليه - رحمة من الله بالجانبين ، فالعدل مقدم والرحمة تأتي بعده .

قيل : إن الآية أشارت إلى ما كان في الشريعة الإسرائيلية من تعيين القصاص من قاتل العمد دون العفو ودون الدية ، كما ذكره كثير من المفسرين ، وهو في صحيح البخاري ، عن ابن عباس ، وهو ظاهر ما في سفر الخروج الإصحاح الثالث : ( من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا ، ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله في يده ، فأنا أجعل لك مكانا يهرب إليه ، وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر فمن عند مذبحي تأخذه للموت ) وقال القرطبي : إن حكم الإنجيل العفو مطلقا ، والظاهر أن هذا غير ثابت في شريعة عيسى ؛ لأنه ما حكى الله عنه إلا أنه قال ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم فلعله مما أخذه علماء المسيحية من أمره بالعفو والتسامح ، لكنه حكم تنزه شرائع الله عنه لإفضائه إلى انخرام نظام العالم ، وشتان بين حال الجاني بالقتل في الإسلام يتوقع القصاص ويضع حياته في يد ولي دم المقتول ، فلا يدري أيقبل الصلح أم لا يقبل ، وبين ما لو كان واثقا بأنه لا قصاص عليه ، فإن ذلك يجرئه على قتل عدوه وخصمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية