الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ( 36 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن الذين كفروا بالله ورسوله ينفقون أموالهم ، فيعطونها أمثالهم من المشركين ليتقووا بها على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، ليصدوا المؤمنين بالله ورسوله عن الإيمان بالله ورسوله ، فسينفقون أموالهم في ذلك ، ثم تكون نفقتهم تلك عليهم " حسرة " ، يقول : تصير ندامة عليهم ، لأن أموالهم تذهب ، ولا يظفرون بما يأملون ويطمعون فيه من إطفاء نور الله ، وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله ، لأن الله معلي كلمته ، وجاعل كلمة الكفر السفلى ، ثم يغلبهم المؤمنون ، ويحشر الله الذين كفروا به وبرسوله إلى جهنم ، فيعذبون فيها ، فأعظم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك ! أما الحي ، فحرب ماله وذهب باطلا في غير درك نفع ، ورجع مغلوبا مقهورا محروبا مسلوبا . وأما الهالك ، فقتل وسلب ، وعجل به إلى نار الله يخلد فيها ، نعوذ بالله من غضبه .

وكان الذي تولى النفقة التي ذكرها الله في هذه الآية فيما ذكر ، أبا سفيان .

* ذكر من قال ذلك : [ ص: 530 ]

16056 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير في قوله : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم " الآية ، " والذين كفروا إلى جهنم يحشرون " ، قال : نزلت في أبي سفيان بن حرب . استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من بني كنانة ، فقاتل بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم الذين يقول فيهم كعب بن مالك :


وجئنا إلى موج من البحر وسطه أحابيش منهم حاسر ومقنع




ثلاثة آلاف ونحن نصية     ثلاث مئين إن كثرن ، فأربع



16057 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن ابن أبزى : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " ، قال : نزلت في أبي سفيان ، استأجر يوم أحد ألفين ليقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سوى من استجاش من العرب . [ ص: 531 ]

16058 - . . . . . . قال ، أخبرنا أبي عن خطاب بن عثمان العصفري ، عن الحكم بن عتيبة : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " ، قال : نزلت في أبي سفيان . أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية من ذهب ، وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالا .

16059 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " ، الآية ، قال : لما قدم أبو سفيان بالعير إلى مكة أشب الناس ودعاهم إلى القتال ، حتى غزا نبي الله من العام المقبل . وكانت بدر في رمضان يوم الجمعة صبيحة سابع عشرة من شهر رمضان . وكانت أحد في شوال يوم السبت لإحدى عشرة خلت منه في العام الرابع .

16060 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : قال الله فيما كان المشركون ، ومنهم أبو سفيان ، يستأجرون الرجال يقاتلون محمدا بهم : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم " فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة " ، يقول : ندامة يوم القيامة وويل " ثم يغلبون " .

16061 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله [ ص: 532 ] " ، الآية حتى قوله : " أولئك هم الخاسرون " ، قال : في نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أحد .

16062 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

16063 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، [ وغيرهم من علمائنا ، كلهم قد حدث بعض الحديث عن يوم أحد . وقد اجتمع حديثهم كله فيما سقت من الحديث عن يوم أحد ، قالوا : أو من قاله منهم : لما أصيب ] يوم بدر من كفار قريش من أصحاب القليب ، ورجع فلهم إلى مكة ، ورجع أبو سفيان بعيره ، مشى عبد الله بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كان له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش ، إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم ، فأعينونا [ ص: 533 ] بهذا المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا ! ففعلوا . قال : ففيهم ، كما ذكر عن ابن عباس ، أنزل الله : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم " إلى قوله : " والذين كفروا إلى جهنم يحشرون " .

16064 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " ، إلى قوله : " يحشرون " ، يعني النفر الذين مشوا إلى أبي سفيان ، وإلى من كان له مال من قريش في تلك التجارة ، فسألوهم أن يقووهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففعلوا .

16065 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني سعيد بن أبي أيوب ، عن عطاء بن دينار في قول الله : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم " ، الآية ، نزلت في أبي سفيان بن حرب . * * *

وقال بعضهم : عني بذلك المشركون من أهل بدر .

* ذكر من قال ذلك :

16066 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " الآية ، قال : هم أهل بدر . * * * [ ص: 534 ]

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ما قلنا ، وهو أن يقال : إن الله أخبر عن الذين كفروا به من مشركي قريش ، أنهم ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله . لم يخبرنا بأي أولئك عنى ، غير أنه عم بالخبر " الذين كفروا " . وجائز أن يكون عنى المنفقين أموالهم لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأحد وجائز أن يكون عنى المنفقين منهم ذلك ببدر وجائز أن يكون عنى الفريقين . وإذا كان ذلك كذلك ، فالصواب في ذلك أن يعم كما عم جل ثناؤه الذين كفروا من قريش . * * *

التالي السابق


الخدمات العلمية