الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ولا تصح الجماعة حتى ينوي المأموم الجماعة ; لأنه يريد أن يتبع غيره فلا بد من نية الاتباع ، فإن رأى رجلين يصليان على الانفراد فنوى الائتمام بهما لم تصح صلاته ; لأنه لا يمكنه أن يقتدي بهما في وقت واحد ، وإن نوى الاقتداء بأحدهما بغير عينه لم تصح صلاته .

                                      لأنه إذا لم يعين لا يمكنه الاقتداء ، وإن كان أحدهما يصلي بالآخر فنوى الاقتداء بالمأموم لم تصح صلاته ; لأنه تابع لغيره فلا يجوز أن يتبعه غيره ، وإن صلى رجلان فنوى كل واحد منهما أنه هو الإمام لم تبطل صلاته ; لأن كل واحد منهما يصلي لنفسه ، ، وإن نوى كل واحد منهما أنه مؤتم بالآخر لم تصح صلاته ; لأن كل واحد منهما ائتم بمن ليس بإمام ) .

                                      [ ص: 98 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) اتفق نص الشافعي والأصحاب على أنه يشترط لصحة الجماعة أن ينوي المأموم الجماعة والاقتداء والائتمام ، قالوا : وتكون هذه النية مقرونة بتكبيرة الإحرام كسائر ما ينويه ، فإن لم ينو في الابتداء ، وأحرم منفردا ثم نوى الاقتداء في أثناء صلاته ففيه خلاف ذكره المصنف بعد هذا ، وإذا ترك نية الاقتداء والانفراد وأحرم مطلقا انعقدت صلاته منفردا ، فإن [ ص: 96 ] تابع الإمام في أفعاله من غير تجديد نية فوجهان : حكاهما القاضي حسين في تعليقه والمتولي وآخرون ( أصحهما ) وأشهرهما : تبطل صلاته ; لأنه ارتبط بمن ليس بإمام له فأشبه الارتباط بغير المصلي ، وبهذا قطع البغوي وآخرون .

                                      ( والثاني ) : لا تبطل ; لأنه أتى بالأركان على وجهها ، وبهذا قطع الأكثرون ، فإن قلنا : لا تبطل صلاته كان منفردا ، ولا يحصل له فضيلة الجماعة بلا خلاف ، صرح به المتولي وغيره .

                                      وإن قلنا : تبطل صلاته فإنما تبطل إذا انتظر ركوعه وسجوده وغيرهما ليركع ويسجد معه وطال انتظاره ، فأما إذا اتفق انقضاء فعله مع انقضاء فعله أو انتظره يسيرا جدا فلا تبطل بلا خلاف ، ولو شك في أثناء صلاته في نية الاقتداء لم تجز له متابعته إلا أن ينوي الآن المتابعة ، وحيث قلنا بجواز الاقتداء في أثناء الصلاة ; لأن الأصل عدم النية ، فإن تذكر أنه كان نوى قال القاضي حسين والمتولي وغيرهما : حكمه حكم من شك في نية أصل الصلاة فإن تذكر قبل أن يفعل فعلا على خلاف متابعة الإمام ، وهو شاك لم يضره .

                                      وإن تذكر بعد أن فعل فعلا على متابعته في الشك بطلت صلاته إذا قلنا بالأصح : إن المنفرد تبطل صلاته بالمتابعة ; لأنه في حال شكه له حكم المنفرد ، وليس له المتابعة حتى قال أصحابنا : لو عرض له هذا الشك في التشهد الأخير لا يجوز أن يقف سلامه على سلام الإمام .

                                      أما إذا اقتدى بإمام فسلم من صلاته ثم شك هل كان نوى الاقتداء ؟ فلا شيء عليه ، وصلاته ماضية على الصحة هذا هو المذهب ، وذكر القاضي حسين في تعليقه أن فيه الخلاف السابق فيمن شك بعد فراغه من الصلاة ، هل ترك ركنا من صلاته أم لا ؟ وهذا ضعيف ، والله أعلم .



                                      أما إذا نوى الاقتداء بمأموم أو نوى الاقتداء باثنين منفردين أو بأحدهما لا بعينه فصلاته باطلة ; لما ذكره المصنف ، ولو صلى رجلان كل واحد منهما نوى أنه مأموم فصلاتهما باطلة .

                                      وإن نوى كل واحد منهما أنه إمام صحت صلاتهما ; لما ذكره المصنف ولو شك كل واحد منهما في أثناء الصلاة أو بعد فراغهما في أنه إمام أم مأموم ، فصلاتاهما باطلتان بالاتفاق ذكره البندنيجي والقاضي حسين وصاحب البيان وغيرهم لاحتمال أن كل واحد نوى الاقتداء بالآخر ، ولو شك أحدهما أنه إمام أو مأموم ، وعلم الآخر أنه إمام أو منفرد [ ص: 97 ] فصلاة الأول باطلة ، وصلاة الثاني صحيحة ، وإن ظن الثاني أنه مقتد بالأول فصلاته باطلة أيضا ، والله أعلم



                                      ولو اقتدى بمأموم وظنه إماما بأن رأى رجلين يصليان ، وقد خالفا سنة الوقوف فوقف المأموم عن يسار الإمام فطريقان : ( المشهور ) منهما الجزم ببطلان صلاته ، وبهذا قطع البندنيجي وصاحب البيان وآخرون ( والثاني ) قاله القاضي حسين : يخرج على الوجهين فيما لو تابع من لم ينو الاقتداء به ; لأنه وقف أفعاله على أفعاله .

                                      قال : ، وهو مشكل لأن من صلى خلف محدث لم يعلم حدثه صحت صلاته ، وإن كان قد وقف فعله على فعله ( قلت : ) الأصح هنا أنه يلزمه الإعادة ; لأنه مفرط بخلاف من صلى خلف المحدث .



                                      ( فرع ) قد ذكرنا أنه لا يصح الاقتداء بالمأموم ، وهذا مجمع عليه نقل الأصحاب فيه الإجماع ، وحكى صاحب البيان عن أصحابنا أنهم نقلوا الإجماع على أنه لا يصح ، قال أصحابنا : وأما ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم " صلى في مرضه وكان أبو بكر يقتدي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يقتدون بصلاة أبي بكر ، فمعناه الجميع كانوا مقتدين بالنبي صلى الله عليه وسلم ولكن أبا بكر يسمعهم التكبير ، وقد جاء هذا اللفظ مصرحا به في روايتين في صحيح مسلم قال : وأبو بكر يسمعهم التكبير



                                      ( فرع ) في اشتراط نية الاقتداء في صلاة الجمعة وجهان حكاهما الرافعي ( الصحيح ) المشهور : الاشتراط كغيرها ( والثاني ) لا يشترط ; لأنها لا تصح إلا في جماعة فلم يحتج إلى نيتها .



                                      ( فرع ) لا يجب على المأموم تعيين الإمام في نيته ، بل يكفيه نية الاقتداء بالإمام الحاضر ، أو إمام هذه الجماعة ، فلو عين وأخطأ نظر إن لم يشر إلى الإمام بأن نوى الاقتداء بزيد ، وهو يظن الإمام زيدا فبان عمرا لم تصح صلاته ; لأنه اقتدى بغائب ، وهو كمن عين الميت في صلاة الجنازة ، وأخطأ لا تصح صلاته ، وكمن نوى العتق عن كفارة ظهاره فكان الذي عليه كفارة قتل لا تجزئه ، وإن نوى الاقتداء بزيد هذا الإمام فكان عمرا ففي صحة اقتدائه به وجهان لتعارض إشارته وتسميته والأصح : صحة الاقتداء ، ونظيره لو قال بعتك هذه الفرس فكان بغلا ، وفيه خلاف مشهور ، والله أعلم .



                                      [ ص: 98 ] فرع ) ينبغي للإمام أن ينوي الإمامة فإن لم ينوها صحت صلاته وصلاة المأمومين .

                                      وفي وجه غريب حكاه الرافعي عن حكاية أبي الحسن العبادي عن أبي حفص البابشامي والقفال أنهما قالا : يجب على الإمام نية الإمامة وأشعر كلام العبادي بأنهما يشترطانها في صحة الاقتداء ، والصواب : أن نية الإمامة لا تجب ، ولا تشترط لصحة الاقتداء وبه قطع جماهير أصحابنا ، وسواء اقتدى به رجال أم نساء ، لكن يحصل فضيلة الجماعة للمأمومين ، وفي حصولها للإمام ثلاثة أوجه : ( أصحها ) وأشهرها : لا تحصل ، وبه قطع الشيخ أبو محمد الجويني والفوراني وآخرون ، لأن الأعمال بالنيات ( والثاني ) : تحصل ; لأنها حاصلة لمتابعيه فوجب أن تحصل له ( والثالث ) : قاله القاضي حسين إن علمهم ، ولم ينو الإمامة لم تحصل ، وإن كان منفردا ثم اقتدوا به ، ولم يعلم اقتداءهم حصل له ثواب الجماعة قال الرافعي : ومن فوائد الخلاف أنه إذا لم ينو الإمامة في صلاة الجمعة هل تصح جمعته ؟ فالأصح أنها لا تصح ، ولو نوى الإمامة وعين المقتدي فبان خلافه لم يضر ، لأن غلطه لا يزيد على ترك النية ، ولأنه لا يربط صلاته بصلاته ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في نية الإمامة ذكرنا أن المشهور من مذهبنا أنه لا يشترط لصحة الجماعة ، وبه قال مالك وآخرون ، وقال الأوزاعي والثوري وإسحاق : تجب ، وعن أحمد روايتان كالمذهبين ، وقال أبو حنيفة وصاحباه : إن صلى برجل لم تجب ، وإن صلى بامرأة أو نساء وجبت




                                      الخدمات العلمية