الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 104 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى : ( وإن دخل في فرض الوقت ثم أقيمت الجماعة فالأفضل أن يقطع ويدخل في الجماعة ; فإن نوى الدخول في الجماعة من غير أن يقطع صلاته ففيه قولان ; قال في الإملاء : لا يجوز ، وتبطل صلاته ; لأن تحريمته سبقت تحريمة الإمام فلم يجز ، كما لو حضر معه في أول الصلاة فكبر قبله ، وقال في القديم والجديد : يجوز ، وهو الأصح ; لأنه لما جاز أن يصلي بعض صلاته منفردا ، ثم يصلي إماما بأن يجيء من يأتم به ، جاز أن يصلي بعض صلاته منفردا ، ثم يصير مأموما ، ومن أصحابنا من قال : إن كان قد ركع في حال الانفراد لم يجز قولا واحدا ; لأنه يتغير ترتيب صلاته بالمتابعة ، والصحيح : أنه لا فرق ; لأن الشافعي لم يفرق ، ويجوز أن يتغير ترتيب صلاته بالمتابعة كالمسبوق بركعة ) .

                                      [ ص: 107 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قال أصحابنا : إذا دخل في فرض الوقت منفردا ثم أراد الدخول في جماعة استحب أن يتمها ركعتين ويسلم منها فتكون نافلة ; ثم يدخل في الجماعة فإن لم يفعل استحب أن يقطعها ثم يستأنفها في الجماعة ; هكذا نص عليه الشافعي في المختصر ; واتفق الأصحاب عليه في الطريقين ، وينكر على المصنف كونه قال : يقطع الصلاة ، ولم يقل : يسلم من ركعتين كما قال الشافعي والأصحاب ، ويتأول كلامه على أنه أراد إذا خشي فوت الجماعة لو تمم ركعتين ، فإنه حينئذ يستحب قطعها فلو لم يقطعها ، ولم يسلم بل نوى الدخول في الجماعة واستمر في الصلاة - فقد نص الشافعي في مختصر المزني على أنه يكره ، واتفق الأصحاب على كراهته كما نص عليه ، وفي صحتها طريقان : ( أحدهما ) : القطع ببطلانها ، حكاه الفوراني وغيره عن أبي بكر الفارسي ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة .

                                      ( والثاني ) ، وهو الصواب المشهور الذي أطبق عليه الأصحاب وفيه قولان مشهوران أصحهما باتفاق الأصحاب : يصح ، وهو نصه في معظم كتبه الجديدة .

                                      والثاني : لا يصح ، نص عليه في الإملاء من كتبه الجديدة ، ودليلها ما ذكره المصنف ، ويستدل للصحة أيضا بحديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم { ذهب ليصلح بين بني عمرو بن عوف فحضرت الصلاة قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم فقدموا أبا بكر ليصلي ، ثم جاء النبي [ ص: 105 ] صلى الله عليه وسلم وهم في الصلاة فتقدم فصلى بهم واقتدى به أبو بكر والجماعة ، فصار أبو بكر مقتديا في أثناء صلاته } واختلف أصحابنا في موضع القولين على أربع طرق مشهورة ( أحدها ) القولان فيمن دخل في الجماعة بعد ركوعه منفردا فإن دخل قبل ركوعه صحت قولا واحدا ( والثاني ) : القولان فيمن دخل فيها قبل ركوعه فإن دخل فيها بعده بطلت قولا واحدا ( والثالث ) : القولان إذا اتفقا في الركعة أولى أو ثانية ، فإن اختلفا وكان الإمام في ركعة ، والمأموم في أخرى متقدمة أو متأخرة بطلت قولا واحدا ( والرابع ) ، وهو الصحيح : أن القولين في الأحوال كلها لوجود علة في كل الأحوال ، والمذهب صحتها بكل حال ، وسواء اقتدى بإمام أحرم بعده أم بإمام كان محرما قبل إحرام هذا المقتدي .

                                      قال أصحابنا : ولو نوى الاقتداء في صلاة رباعية بمن يصلي ركعتين فسلم الإمام بعد فراغه فقام المقتدي واقتدى في ركعتيه الباقيتين بآخر ففيه القولان ، ومثله هذا الذي يعتاده كثير من الناس يدرك الإمام في صلاة التراويح فيحرم خلفه بالعشاء ، فإذا سلم الإمام قام المقتدي لإتمام صلاته ثم يحرم الإمام بركعتين أخريين في التراويح فيقتدي به فيهما ، ففي صحته القولان أصحهما : الصحة .

                                      وهكذا لو اقتدى في كل ركعة ففيه الخلاف بالترتيب وأولى بالبطلان ، فإذا قلنا بالصحة فاختلفا في الركعة لزم المأموم متابعة الإمام فيقعد في موضع قعوده ويقوم في موضع قيامه ، فإن تمت صلاة الإمام أولا قام المأموم بعد سلامه لتتمة صلاته ; لأنه مسبوق ، وإن تمت صلاة المأموم أولا لم يجز له متابعة الإمام في الزيادة ، بل إن شاء فارقه عند تمامها وتشهد وسلم ، وتصح صلاته بلا خلاف ; لأنه فارقه بعذر يتعلق بالصلاة ، وإن شاء انتظره في التشهد وطول الدعاء حتى يلحقه الإمام ثم يسلم عقبه ولو سها المأموم قبل الاقتداء لم يتحمل عنه الإمام ، بل إذا سلم الإمام سجد هو لسهوه إن كانت تمت صلاته وإلا سجد عند تمامها ، وإن سها بعد الاقتداء حمل عنه الإمام ، وإن سها [ ص: 106 ] الإمام قبل الاقتداء أو بعده لحق المأموم سهوه ، ويسجد معه ويعيده في آخر صلاته على الأظهر كالمسبوق ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) ذكر المصنف هنا أن القول القديم : صحة صلاة هذا المقتدي ، كما نص عليه في الجديد وتابعه على هذا صاحبا المعتمد والبيان تقليدا له ، والذي نقله أصحابنا عن القديم بطلان صلاته ، وممن نقل ذلك صريحا الشيخ أبو حامد وصاحب الحاوي والقاضي أبو الطيب والمحاملي في التجريد والفوراني والمتولي وآخرون ، وهذا هو الصواب ; لأن نصه في القديم قال قائل : يدخل مع الإمام ويعتد بما مضى ، ولسنا نقول بهذا ( فرع ) هذا الذي ذكره الشافعي هنا من قوله : يسلم من ركعتين ، وتكون نافلة هو الصحيح في المذهب ، وقد تقدم في صفة الصلاة في فصل النية مسائل من هذا القبيل فيها خلاف ، وهي مختلفة في الترجيح كما سبق هناك ، وفي هذا النص واتفاق الأصحاب عليه دليل على اتفاقهم على جواز الخروج من فريضة دخل فيها في أول وقتها للعذر ، وأما إذا خرج منها بلا عذر فإنه يحرم عليه ذلك على المذهب الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي وقطع به الجمهور ، وقد سبق بيان المسألة مستقصى في باب التيمم في مسألة رؤية الماء في أثناء الصلاة وقال المتولي : إذا قلنا : إن قلب فرضه نفلا لا ينقلب بل تبطل صلاته حرم عليه هنا أن يسلم من ركعتين ليدخل في الجماعة ; لأن فيه أبطال فرض ، وهذا الذي قاله المتولي غلط ظاهر مخالف لنص الشافعي ، والأصحاب جميعهم على استحباب ذلك ، ووجهه ما ذكرناه أنه يجوز قطع الفرض لعذر ، وتحصيل الجماعة عذر مهم ; لأنه إذا جاز قطعه لعذر دنيوي وحظ نفسه فجوازه لمصلحة الصلاة ولسبب تكميلها أولى ، ثم تعليله بأنه إبطال فرض تعليل فاسد ; لأن إبطال الفرض حاصل سواء قلنا : ينقلب نفلا أم تبطل ، والله أعلم



                                      ( فرع ) قد ذكرنا أن نص الشافعي والأصحاب : أنه يستحب أن يسلم من ركعتين ، ثم يدخل الجماعة ، وهذا فيما إذا كان قد بقي من صلاته أكثر من ركعتين ، فإن كان الباقي دون ذلك استحب أن يتمها ثم يعيدها مع الجماعة .

                                      وممن صرح بهذا الرافعي .



                                      [ ص: 107 ] فرع ) هذا الذي سبق هو فيما إذا دخل في فرض الوقت ثم أراد جماعة ، فأما إذا دخل في فائتة ثم أراد الدخول في جماعة فان كانت الجماعة تصلي تلك الفائتة فالجماعة مسنونة لها .

                                      فهي كفرض الوقت فيما ذكره ، وإن كانت الجماعة غير تلك الفائتة لم يجب التسليم من ركعتين ، ولا قطعها لتحصيل تلك الفائتة جماعة ; لأن الجماعة لا تشرع حينئذ كما سبق بيانه في أول الباب .

                                      وممن صرح بذلك صاحب التتمة قال : لأن الجماعة ليست من مصلحة هذه الصلاة ، ولا يجوز قطع فريضة لمراعاة مصلحة فريضة أخرى ، وهذا بخلاف ما لو شرع في فائتة في يوم غيم ، ثم انكشف وخاف فوت الحاضرة فإنه يسلم من ركعتين ويشتغل بالحاضرة .

                                      قال المتولي : ولو شرع في فريضة في آخر وقتها منفردا ، وأمكنه إتمامها في الوقت منفردا ، وحضر قوم يصلونها جماعة ، وعلم أنه لو سلم من ركعتين ، ودخل معهم وقع بعضها خارج الوقت أو شك في ذلك حرم عليه السلام من ركعتين ; لأن مراعاة الوقت فرض ، والجماعة سنة ، فلا يجوز له ترك الفرض لمراعاة سنة والله أعلم .



                                      ( فرع ) قال صاحب البيان : إذا افتتح جماعة ثم نقلها إلى جماعة أخرى بأن أحرم خلف جنب أو محدث لم يعلم ، ثم علم الإمام فخرج فتطهر ، ثم رجع فأحرم بالصلاة فألحق المأموم صلاته بصلاته ثانيا أو جاء آخر فألحق المأموم صلاته بصلاته بعد علمه بحدث الأول ، قال أصحابنا : يجوز ذلك قولا واحدا ، وتكون صلاة المأموم انعقدت جماعة ثم صارت بعد ذلك جماعة ، وهذا لا خلاف فيه ، بخلاف من أحرم منفردا ، وكذلك إذا أحدث الإمام واستخلف وجوزنا الاستخلاف فإن المأمومين نقلوا صلاتهم من جماعة إلى جماعة هذا كلام صاحب البيان ، وذكر الشيخ أبو حامد في التعليق والمحاملي وآخرون نحوه .



                                      ( فرع ) قال الشيخ أبو حامد والماوردي والقاضي أبو الطيب والمحاملي وغيرهم : قلب الفرض إلى غيره أربعة أنواع : ( أحدها ) : أن يحرم بالطهر ظانا دخول الوقت فيتبين عدمه فيقع نافلة هكذا جزموا به ، وهو المذهب ; وفيه خلاف سبق في أول صفة الصلاة .

                                      [ ص: 108 ] الثاني : ) يحرم بفريضة ثم ينوي قلبها فريضة أخرى أو منذورة فتبطل صلاته على المذهب ، وقيل في انقلابها نفلا قولان سبقا .

                                      ( الثالث ) : يحرم بفريضة ثم ينوي قلبها نافلة فتبطل على المذهب ، وهو المنصوص وحكى هؤلاء المذكورون وغيرهم وجها أنه يقع نفلا .

                                      ( الرابع ) مسألة الكتاب وهي : أن يحرم بفرض منفردا ثم يريد دخول جماعة فيقتصر على ركعتين نص الشافعي والجمهور على وقوعها نافلة ، وطرد جماعة فيها الخلاف ، والمذهب وقوعها نافلة ، والفرق أنه هنا معذور لتحصيل الجماعة .

                                      قال الماوردي : نقل الصلاة إلى صلاة أقسام : ( أحدها ) : نقل فرض إلى فرض فلا يحصل واحد منهما ( الثاني ) : نقل نفل راتب إلى نفل راتب كوتر إلى سنة الفجر فلا يحصل واحد منهما ( الثالث ) : نقل نفل إلى فرض فلا يحصل واحد منهما ( الرابع ) : نقل فرض إلى نفل فهذا نوعان : نقل حكم كمن أحرم بالظهر قبل الزوال جاهلا فتقع نفلا ، والثاني : نقل نية بأن ينوي قلبه نفلا عامدا فيبطل فرضه ، والصحيح المنصوص : أنه لا ينقلب نفلا ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) لو دخل في جماعة ثم حضرت جماعة أخرى فنوى قطع الاقتداء بالإمام الأول ثم نوى متابعة الثاني ففي بطلان صلاته بقطع الاقتداء الخلاف المشهور ، وسنوضحه قريبا إن شاء الله - تعالى - والمذهب : أنها لا تبطل سواء كان لعذر أو لغيره ، فعلى هذا في صحة الاقتداء الثاني القولان في المسألة التي نحن فيها ذكره المتولي وغيره ، وهو ظاهر ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية