الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( وإذا أحس بداخل وهو راكع ففيه قولان : ( أحدهما ) : يكره أن ينتظر ; لأن فيه تشريكا بين الله عز وجل وبين الخلق في العبادة ، وقد قال الله تعالى ( { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } ) .

                                      ( والثاني ) : يستحب أن ينتظر وهو الأصح ; لأنه انتظار ليدرك به الغير ركعة فلم يكره كالانتظار في صلاة الخوف ، وتعليل الأول يبطل بإعادة الصلاة لمن فاتته الجماعة ، ويرفع الصوت بالتكبير ليسمع من وراءه فإن فيه تشريكا ثم يستحب .

                                      وإن أحس به وهو قائم لم ينتظره ; لأن [ ص: 126 ] الإدراك يحصل له بالركوع ، فإن أدركه وهو يتشهد ففيه وجهان : ( أحدهما ) : أنه لا يستحب ; لما فيه من التشريك ( والثاني ) : يستحب ; لأنه يدرك به الجماعة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) إذا دخل الإمام في الصلاة ثم طول لانتظار مصل فله أحوال : ( أحدها ) : أن يحس وهو راكع من يريد الاقتداء فهل ينتظره ؟ فيه قولان : أصحهما عند المصنف والقاضي أبي الطيب والأكثرين : يستحب انتظاره ( والثاني ) : يكره ، وقال كثيرون من الأصحاب : لا يستحب الانتظار ، وإنما القولان : في أنه يكره أم لا ؟ وهذه طريقة الشيخ أبي حامد وطائفة .

                                      قال القاضي أبو الطيب هذه الطريقة غلط ; لأن الشافعي نص على الاستحباب في الجديد وقال آخرون : لا يكره وإنما القولان في استحبابه وعدمه ، وقيل : إن عرف عين الداخل لم ينتظره ، وإلا انتظره ، وقيل : إن كان ملازما للجماعة انتظره ، وإلا فلا ، وقيل : إن لم يشق على المأمومين انتظر وإلا فقولان .

                                      وقيل : لا ينتظر قطعا .

                                      وإذا اختصرت هذا الخلاف وجعلته أقوالا كان خمسة ( أحدها ) : يستحب الانتظار ( والثاني ) : يكره ( والثالث ) : لا يستحب ولا يكره ( والرابع ) : يكره انتظار معين دون غيره ( والخامس ) : إن كان ملازما انتظره ، وإلا فلا ، والصحيح استحباب الانتظار مطلقا بشروط : أن يكون المسبوق داخل المسجد حين الانتظار ، وألا يفحش طول الانتظار ، وأن يقصد به التقرب إلى الله - تعالى ، لا التودد إلى الداخل وتمييزه ; وهذا معنى قولهم : لا يميز بين داخل وداخل فإن قلنا : لا ينتظر فانتظر لم تبطل صلاته على المذهب ، وبه قطع الجمهور ، وحكى جماعة الخراسانيين في بطلانها قولا ضعيفا غريبا كالانتظار الزائد في صلاة الخوف .

                                      ( الحال الثاني ) : أن يحس به وهو في آخر التشهد الأخير ; قال أصحابنا : إنه حكم الركوع ففيه الخلاف ; ثم منهم من قال : فيه الخلاف ، ومنهم من قال : فيه قولان ; ومنهم من قال : فيه وجهان : ، وهو طريقة المصنف والبغوي والصحيح استحباب الانتظار بالشروط السابقة ; لأنه يحصل به إدراك الجماعة كما يحصل بالركوع إدراك الركعة .

                                      ( الحال الثالث ) أن يحس به في غير الركوع والتشهد كالقيام والسجود [ ص: 127 ] والاعتدال والتشهد الأول ، ففيه طرق ( أصحها ) وبه قطع المصنف والأكثرون : لا ينتظره لعدم الحاجة إليه ; لأن الانتظار ممكن في الركوع والتشهد ، ولا يفوت بغيرهما مقصود ( والثاني ) : في الانتظار الخلاف كالركوع ، حكاه إمام الحرمين وآخرون ( والثالث ) : لا ينتظر في غير القيام ، وفي القيام الخلاف ، فإن قلنا : ينتظر فشرطه ما سبق ، وإلا ففي بطلان الصلاة الخلاف السابق ، فهذا ملخص حكم المذهب في المسألة ، وهي طويلة مشعبة ، والمختصر منها أن الصحيح استحباب الانتظار في الركوع والتشهد الأخير ، وكراهته في غيرهما ، وأنه إذا قلنا : يكره فطول لا تبطل .

                                      ( فرع ) لو دخل في الصلاة لجماعة فطول ليلحقه قوم آخرون تكثر بهم الجماعة ، أو ليلحقه رجل مشهور عادته الحضور ، أو نحو ذلك ، فهو مكروه باتفاق أصحابنا ، وممن نقل اتفاق الأصحاب عليه الشيخ أبو حامد ، وصاحب البيان قالوا : وسواء كان المسجد في سوق أو محلة ، وعادة الناس يأتونه بعد الإقامة فوجا فوجا أم لا ، وسواء كان الرجل المنتظر مشهورا بدينه أو علمه أو دنياه ، وكله مكروه بالاتفاق لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " { إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف } وقوله صلى الله عليه وسلم : { أفتان أنت يا معاذ ؟ } " وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة ، ولأنهم مقصرون بالتأخير ، ولأن فيه إضرارا بالمأمومين ، ولأنه إذا لم ينتظرهم حثهم ذلك على المسارعة إلى الصلاة والتبكير .

                                      أما إذا لم يدخل في الصلاة ، وقد جاء وقت الدخول فيها ، وحضر بعض المأمومين ، ويرجو زيادة - فيستحب أن يعجلها ، ولا ينتظرهم ، وإن حضر المأمومون دون الإمام فقد سبق بيانه في أوائل هذا الباب ، وسبق أيضا الخلاف فيما إذا علم أن عادة الإمام التأخير ، هل الأفضل انتظاره لتحصيل الجماعة ؟ أم تعجيل الصلاة منفردا وسبقت هذه المسألة ونظائرها الكثيرة مبسوطة في باب التيمم .

                                      ( فرع ) في شرح ألفاظ المصنف قوله : أحس هي اللغة الفصيحة المشهورة ، ولا يقال : حس إلا في لغة ضعيفة غريبة وعبد الله بن أبي أوفى كنيته : أبو إبراهيم وقيل أبو محمد وقيل أبو معاوية الأسلمي واسم أبي أوفى [ ص: 128 ] علقمة بن خالد بن الحارث وعبد الله وأبوه صحابيان ، شهد عبد الله بيعة الرضوان ، نزل الكوفة وتوفي بها سنة ست وثمانين ، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة .

                                      وأما حديث ابن أبي أوفى الذي ذكره المصنف فسنذكره في الفرع بعده إن شاء الله تعالى .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في انتظار الإمام وهو راكع الداخل قد ذكرنا أن الأصح عندنا استحبابه ، وحكاه ابن المنذر عن الشعبي والنخعي وأبي مجلز وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وهم تابعيون وعن أحمد وإسحاق وأبي ثور ينتظره ما لم يشق على أصحابه ، وعن أبي حنيفة ومالك والأوزاعي وأبي يوسف والمزني وداود : لا ينتظره واستحسنه ابن المنذر ، واحتج لهؤلاء بعموم الأحاديث الصحيحة في الأمر بالتخفيف وبأن فيه تشريكا في العبادة وبالقياس على الانتظار في غير الركوع واحتج أصحابنا بأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الانتظار في صلاة الخوف للحاجة ، والحاجة موجودة وبحديث أبي سعيد الخدري الذي سبق قريبا { أن رجلا حضر بعد فراغ الصلاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يتصدق على هذا ؟ فصلى معه رجل } ، وهو حديث صحيح كما سبق .

                                      وفيه دليل لاستحباب الصلاة لإتمام صلاة المسلم فهذان الحديثان هما المعتمد ، وأما الحديث الذي احتج به المصنف والأصحاب عن ابن أبي أوفى { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الركعة من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم } فرواه أحمد بن حنبل وأبو داود عن رجل لم يسم عن ابن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمى بعض الرواة هذا الرجل طرفة الحضرمي ، والحديث ضعيف ، والمعتمد ما قدمناه ، والقياس على رفع الإمام صوته بالتكبير لمصلحة المأموم .

                                      والجواب عن احتجاجهم بأحاديث التخفيف من وجهين : ( أحدهما ) : أنا لا نخالفها ; لأن الانتظار الذي نستحبه هو الذي لا يفحش ولا يشق عليهم كما سبق ( والثاني ) : أنها محمولة على ما إذا لم تكن حاجة بدليل انتظاره صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف وأما الجواب عن دعواهم التشريك فلا [ ص: 129 ] نسلم التشريك ، وإنما هو تطويل الصلاة التي هي لله - تعالى - بقصد مصلحة صلاة آخر ، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف مثله وأسمع أصحابه التكبير والتأمين وأجمعت الأمة على استحباب رفع الإمام أو المؤذن صوته بالتكبيرات للإعلام بانتقال الإمام ، والجواب عن قياسهم على غير الركوع : أنه لا فائدة فيه بخلاف الركوع كما سبق والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية