الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) بيان ما يسقط به الترتيب فالترتيب بين قضاء الفائتة وأداء الوقتية يسقط بأحد خصال ثلاث : أحدها - ضيق الوقت بأن يذكر في آخر الوقت بحيث لو اشتغل بالفائتة يخرج الوقت قبل أداء الوقتية ، سقط عنه الترتيب في هذه الحالة ، لما ذكرنا أن في مراعاة الترتيب فيها إبطال العمل بالدليل المقطوع به بدليل فيه شبهة ، وهذا لا يجوز ، ولو تذكر صلاة الظهر في آخر وقت العصر بعد ما تغيرت الشمس فإنه يصلي العصر ولا يجزئه قضاء الظهر ، لما ذكرنا فيما تقدم أن قضاء الصلاة في هذا الوقت قضاء الكامل بالناقص ، بخلاف عصر يومه .

                                                                                                                                وأما إذا تذكرها قبل تغير الشمس لكنه بحال لو اشتغل بقضائها لدخل عليه وقت مكروه - لم يذكر في ظاهر الرواية ، واختلف المشايخ فيه ، قال بعضهم : لا يجوز له أن يؤدي العصر قبل أن يراعي الترتيب فيقضي الظهر ثم يصلي العصر ; لأنه لا يخاف خروج الوقت ، فلم يتضيق الوقت فبقي وجوب الترتيب .

                                                                                                                                وقال بعضهم : لا .

                                                                                                                                بل يسقط الترتيب فيصلي العصر قبل الظهر ثم يصلي الظهر بعد غروب الشمس ، وذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني وقال : هذا عندي على الاختلاف الذي في صلاة الجمعة ، وهو أن من تذكر في صلاة الجمعة أنه لم يصل الفجر ولو اشتغل بالفجر يخاف فوت الجمعة ، ولا يخاف فوت الوقت : على قول أبي حنيفة وأبي يوسف يصلي الفجر ثم الظهر ، فلم يجعلا فوت الجمعة عذرا في سقوط الترتيب ، وعلى قول محمد يصلي الجمعة ثم الفجر ، فجعل فوت الجمعة عذرا في سقوط الترتيب ، فكذا في هذه المسألة ، على قولهما يجب أن لا يجوز العصر وعليه الظهر فيصلي الظهر ثم العصر وعلى قول محمد يمضي على صلاته .

                                                                                                                                ولو افتتح العصر في أول الوقت وهو ذاكر أن عليه الظهر وأطال القيام والقراءة حتى دخل عليه وقت مكروه لا تجوز صلاته ; لأن شروعه في العصر مع ترك الظهر لم يصح ، فيقطع ثم يفتتحها ثانيا ثم يصلي الظهر بعد الغروب .

                                                                                                                                ولو افتتحها وهو لا يعلم أن عليه الظهر فأطال القيام والقراءة حتى دخل وقت مكروه ثم تذكر يمضي على صلاته ; لأن المسقط للترتيب قد وجد عند افتتاح الصلاة واختتامها ، وهو النسيان وضيق الوقت ولو افتتح العصر في حال ضيق الوقت وهو ذاكر للظهر فلما صلى منها ركعة أو ركعتين غربت الشمس - القياس أن يفسد العصر ; لأن العذر قد زال وهو ضيق الوقت فعاد الترتيب ، وفي الاستحسان يمضي فيها ثم يقضي الظهر ثم يصلي المغرب ذكره في نوادر الصلاة .

                                                                                                                                ( والثاني ) - النسيان لما ذكرنا أن خبر الواحد جعل وقت التذكر وقتا للفائتة ، ولا تذكر ههنا ، فوجب العمل بالدليل المقطوع به .

                                                                                                                                وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم { صلى المغرب يوما ثم قال : رآني أحد منكم صليت العصر ؟ فقالوا : لا فصلى العصر ولم يعد المغرب } ، ولو وجب الترتيب لأعاد ، وعلى هذا لو صلى الظهر على غير وضوء وصلى العصر بوضوء وهو ذاكر لما صنع فأعاد الظهر ولم يعد العصر ، وصلى المغرب وهو يظن أن العصر تجزئه أعاد العصر ولم يعد المغرب ; لأن أداء الظهر على غير وضوء والامتناع عنه بمنزلة فوات شرط أهلية الصلاة ، فحين صلى العصر صلى وهو يعلم أن الظهر غير جائزة .

                                                                                                                                ولو لم يعلم وكان يظن أنها جائزة لم يكن هذا الظن معتبرا ; لأنه نشأ عن جهل ، والظن إنما يعتبر إذا نشأ عن دليل أو شبهة دليل ، ولم يوجد فكان هذا جهلا محضا ، فقد صلى العصر وهو عالم أن عليه الظهر فكان مصليا العصر في وقت الظهر فلم يجز ، ولو صلى المغرب قبل إعادتهما جميعا لا يجوز ; لأنه صلى المغرب وهو يعلم أن عليه الظهر فصار المغرب في ، وقت الظهر فلم يجز فأما لو كان أعاد الظهر ولم يعد العصر فظن جوازها ثم صلى المغرب - فإنه يؤمر بإعادة العصر ولا يؤمر بإعادة المغرب ; لأن ظنه أن عصره جائز ظن معتبر ; لأنه نشأ عن شبهة دليل ، ولهذا خفي على الشافعي فحين [ ص: 135 ] صلى المغرب صلاها وعنده أن لا عصر عليه ; لأنه أداها بجميع أركانها وشرائطها المختصة بها ، إنما خفي عليه بناء على شبهة دليل ، ومن صلى المغرب وعنده أن لا عصر عليه - حكم بجواز المغرب كما لو كان ناسيا للعصر ، بل هذا فوق النسيان ; لأن ظن الناسي لم ينشأ عن شبهة دليل بل عن غفلة طبيعية ، وهذا الظن نشأ عن شبهة دليل فكان هذا فوق ذلك ، ثم هناك حكم بجواز المغرب فههنا أولى ، ثم العلم بالفائتة كما هو شرط لوجوب الترتيب فالعلم بوجوبها حال الفوات شرط لوجوب قضائها ، حتى أن الحربي إذا أسلم في دار الحرب ومكث فيها سنة ولم يعلم أن عليه الصلاة فلم يصل ثم علم - لا يجب عليه قضاؤها في قول أصحابنا الثلاثة وقال زفر : عليه قضاؤها .

                                                                                                                                ولو كان هذا ذميا أسلم في دار الإسلام فعليه قضاؤها استحسانا ، والقياس أن لا قضاء عليه ، وهو قول الحسن

                                                                                                                                ( وجه ) قول زفر : أنه بالإسلام التزم أحكامه ، ووجوب الصلاة من أحكام الإسلام فيلزمه ، ولا يسقط بالجهل ، كما لو كان هذا في دار الإسلام .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن الذي أسلم في دار الحرب منع عنه العلم لانعدام سبب العلم في حقه ، ولا وجوب على من منع عنه العلم كما لا وجوب على من منع عنه القدرة بمنع سببها ، بخلاف الذي أسلم في دار الإسلام ; لأنه ضيع العلم حيث لم يسأل المسلمين عن شرائع الدين مع تمكنه من السؤال ، والوجوب متحقق في حق من ضيع العلم كما يتحقق في حق من ضيع القدرة ، ولم يوجد التضييع ههنا إذ لا يوجد في الحرب من يسأله عن شرائع الإسلام ، حتى لو وجد ولم يسأله يجب عليه ، ويؤاخذ بالقضاء إذا علم بعد ذلك ; لأنه ضيع العلم وما منع منه كالذي أسلم في دار الإسلام .

                                                                                                                                وقد خرج الجواب عما قاله زفر أنه التزم أحكام الإسلام ; لأنا نقول : نعم لكن حكما له سبيل الوصول إليه ولم يوجد ، فإن بلغه في دار الحرب رجل واحد فعليه القضاء فيما يترك بعد ذلك في قول أبي يوسف ومحمد ، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة ، وفي رواية الحسن عنه لا يلزمه ما لم يخبره رجلان أو رجل وامرأتان .

                                                                                                                                ( وجه ) هذه الرواية أن هذا خبر ملزم ، ومن أصله اشتراط العدد في الخبر الملزم ، كما في الحجر على المأذون ، وعزل الوكيل ، والإخبار بجناية العبد .

                                                                                                                                ( وجه ) الرواية الأخرى وهي الأصح أن كل واحد مأمور من صاحب الشرع بالتبليغ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ألا فليبلغ الشاهد الغائب } وقال صلى الله عليه وسلم : { نضر الله امرءا سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من لم يسمعها } ، فهذا المبلغ نظير الرسول من المولي والموكل ، وخبر الرسول هناك ملزم فههنا كذلك والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية