الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        1257 حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال أخبرني عطاء أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلم فصلوا عليه قال فصففنا فصلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه ونحن معه صفوف قال أبو الزبير عن جابر كنت في الصف الثاني

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش ) بفتح المهملة والموحدة بعدها معجمة ، في رواية مسلم من طريق يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج : مات اليوم عبد لله صالح أصحمة . وللمصنف في هجرة الحبشة من طريق ابن عيينة عن ابن جريج : فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة . وسيأتي ضبط هذا الاسم بعد في " باب التكبير على الجنازة " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ) زاد المستملي في روايته " ونحن صفوف " وبه يصح مقصود الترجمة . وقال الكرماني : يؤخذ مقصودها من قوله : " فصففنا " لأن الغالب أن الملازمين له صلى الله عليه وسلم كانوا كثيرا ، ولا سيما مع أمره لهم بالخروج إلى المصلى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال أبو الزبير ، عن جابر كنت في الصف الثاني ) وصله النسائي من طريق شعبة ، عن أبي الزبير بلفظ : " كنت في الصف الثاني يوم صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي " . ووهم من نسب وصل [ ص: 224 ] هذا التعليق لرواية مسلم ، فإنه أخرجه من طريق أيوب ، عن أبي الزبير وليس فيه مقصود التعليق . وفي الحديث دلالة على أن للصفوف على الجنازة تأثيرا ولو كان الجمع كثيرا ، لأن الظاهر أن الذين خرجوا معه صلى الله عليه وسلم كانوا عددا كثيرا ، وكان المصلى فضاء ، ولا يضيق بهم لو صفوا فيه صفا واحدا ، ومع ذلك فقد صفهم ، وهذا هو الذي فهمه مالك بن هبيرة الصحابي المقدم ذكره ، فكان يصف من يحضر الصلاة على الجنازة ثلاثة صفوف سواء قلوا أو كثروا ، ويبقى النظر فيما إذا تعددت الصفوف والعدد قليل ، أو كان الصف واحدا والعدد كثير أيهما أفضل ؟ وفي قصة النجاشي علم من أعلام النبوة ، لأنه صلى الله عليه وسلم أعلمهم بموته في اليوم الذي مات فيه ، مع بعد ما بين أرض الحبشة والمدينة . واستدل به على منع الصلاة على الميت في المسجد وهو قول الحنفية والمالكية ، لكن قال أبو يوسف : إن أعد مسجد للصلاة على الموتى لم يكن في الصلاة فيه عليهم بأس . قال النووي : ولا حجة فيه ، لأن الممتنع عند الحنفية إدخال الميت المسجد لا مجرد الصلاة عليه ، حتى لو كان الميت خارج المسجد جازت الصلاة عليه لمن هو داخله . وقال ابن بزيزة وغيره : استدل به بعض المالكية ، وهو باطل لأنه ليس فيه صيغة نهي ، ولاحتمال أن يكون خرج بهم إلى المصلى لأمر غير المعنى المذكور ، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد ، فكيف يترك هذا الصريح لأمر محتمل ؟ بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه ، ولإشاعة كونه مات على الإسلام ، فقد كان بعض الناس لم يدركونه أسلم ، فقد روى ابن أبي حاتم في التفسير من طريق ثابت ، والدارقطني في " الأفراد " ، والبزار من طريق حميد كلاهما عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى على النجاشي قال بعض أصحابه : صلى على علج من الحبشة ، فنزلت : وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم الآية . وله شاهد في معجم الطبراني الكبير من حديث وحشي بن حرب وآخر عنده في الأوسط من حديث أبي سعيد ، وزاد فيه أن الذي طعن بذلك فيه كان منافقا ، واستدل به على مشروعية الصلاة على الميت الغائب عن البلد ، وبذلك قال الشافعي ، وأحمد وجمهور السلف ، حتى قال ابن حزم : لم يأت عن أحد من الصحابة منعه . قال الشافعي : الصلاة على الميت دعاء له ، وهو إذا كان ملففا يصلى عليه ، فكيف لا يدعى له وهو غائب أو في القبر بذلك الوجه الذي يدعى له به وهو ملفف ؟ وعن الحنفية والمالكية لا يشرع ذلك ، وعن بعض أهل العلم إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه الميت أو ما قرب منه لا ما إذا طالت المدة حكاه ابن عبد البر ، وقال ابن حبان : إنما يجوز ذلك لمن كان في جهة القبلة ، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلا لم يجز ، قال المحب الطبري : لم أر ذلك لغيره ، وحجته حجة الذي قبله : الجمود على قصة النجاشي ، وستأتي حكاية مشاركة الخطابي لهم في هذا الجمود . وقد اعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن قصة النجاشي بأمور : منها أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد ، فتعينت الصلاة عليه لذلك ، ومن ثم قال الخطابي : لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلي عليه . واستحسنه الروياني من الشافعية ، وبه ترجم أبو داود في السنن : " الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك ببلد آخر " . وهذا محتمل إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار على أنه لم يصل عليه في بلده أحد ، ومن ذلك قول بعضهم : كشف له صلى الله عليه وسلم عنه حتى رآه ، فتكون [ ص: 225 ] صلاته عليه كصلاة الإمام على ميت رآه ، ولم يره المأمومون ولا خلاف في جوازها . قال ابن دقيق العيد : هذا يحتاج إلى نقل ، ولا يثبت بالاحتمال . وتعقبه بعض الحنفية بأن الاحتمال كاف في مثل هذا من جهة المانع ، وكأن مستند قائل ذلك ما ذكره الواقدي في أسبابه بغير إسناد عن ابن عباس قال : كشف للنبي صلى الله عليه وسلم عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه . ولابن حبان من حديث عمران بن حصين : " فقام وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه " . أخرجه من طريق الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب عنه ، ولأبي عوانة من طريق أبان وغيره عن يحيى : " فصلينا خلفه ونحن لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا " . ومن الاعتذارات أيضا أن ذلك خاص بالنجاشي ، لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ميت غائب غيره ، قال المهلب : وكأنه لم يثبت عنده قصة معاوية الليثي ، وقد ذكرت في ترجمته في الصحابة أن خبره قوي بالنظر إلى مجموع طرقه ، واستند من قال بتخصيص النجاشي لذلك إلى ما تقدم من إرادة إشاعة أنه مات مسلما أو استئلاف قلوب الملوك الذين أسلموا في حياته ، قالالنووي : لو فتح باب هذا الخصوص لانسد كثير من ظواهر الشرع ، مع أنه لو كان شيء مما ذكروه لتوفرت الدواعي على نقله . وقال ابن العربي المالكي : قال المالكية : ليس ذلك إلا لمحمد . قلنا : وما عمل به محمد تعمل به أمته ، يعني لأن الأصل عدم الخصوصية . قالوا : طويت له الأرض ، وأحضرت الجنازة بين يديه . قلنا : إن ربنا عليه لقادر ، وإن نبينا لأهل لذلك ، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ، ولا تخترعوا حديثا من عند أنفسكم ، ولا تحدثوا إلا بالثابتات ، ودعوا الضعاف ، فإنها سبيل تلاف ، إلى ما ليس له تلاف . وقال الكرماني : قولهم : رفع الحجاب عنه ممنوع ، ولئن سلمنا فكان غائبا عن الصحابة الذين صلوا عليه مع النبي صلى الله عليه وسلم . قلت : وسبق إلى ذلك الشيخ أبو حامد في تعليقه ، ويؤيده حديث مجمع بن جارية - بالجيم والتحتانية - في قصة الصلاة على النجاشي قال : " فصففنا خلفه صفين ، وما نرى شيئا " . أخرجه الطبراني ، وأصله في ابن ماجه ، لكن أجاب بعض الحنفية عن ذلك بما تقدم من أنه يصير كالميت الذي يصلي عليه الإمام وهو يراه ولا يراه المأمومون ، فإنه جائز اتفاقا .

                                                                                                                                                                                                        ( فائدة ) : أجمع كل من أجاز الصلاة على الغائب أن ذلك يسقط فرض الكفاية ، إلا ما حكي عن ابن القطان أحد أصحاب الوجوه من الشافعية أنه قال : يجوز ذلك ولا يسقط الفرض . وسيأتي الكلام على الاختلاف في عدد التكبير على الجنازة في باب مفرد .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية