الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب سنة الصلاة على الجنازة وقال النبي صلى الله عليه وسلم من صلى على الجنازة وقال صلوا على صاحبكم وقال صلوا على النجاشي سماها صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود ولا يتكلم فيها وفيها تكبير وتسليم وكان ابن عمر لا يصلي إلا طاهرا ولا يصلي عند طلوع الشمس ولا غروبها ويرفع يديه وقال الحسن أدركت الناس وأحقهم بالصلاة على جنائزهم من رضوهم لفرائضهم وإذا أحدث يوم العيد أو عند الجنازة يطلب الماء ولا يتيمم وإذا انتهى إلى الجنازة وهم يصلون يدخل معهم بتكبيرة وقال ابن المسيب يكبر بالليل والنهار والسفر والحضر أربعا وقال أنس رضي الله عنه التكبيرة الواحدة استفتاح الصلاة وقال ولا تصل على أحد منهم مات أبدا وفيه صفوف وإمام

                                                                                                                                                                                                        1259 حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن الشيباني عن الشعبي قال أخبرني من مر مع نبيكم صلى الله عليه وسلم على قبر منبوذ فأمنا فصففنا خلفه فقلنا يا أبا عمرو من حدثك قال ابن عباس رضي الله عنهما

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب سنة الصلاة على الجنازة ) قال الزين بن المنير : المراد بالسنة ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم فيها ، يعني فهو أعم من الواجب والمندوب ، ومراده بما ذكره هنا من الآثار والأحاديث أن لها حكم غيرها من الصلوات والشرائط والأركان ، وليست مجرد دعاء ، فلا تجزئ بغير طهارة مثلا ، وسيأتي بسط ذلك في أواخر الباب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من صلى على الجنازة ) هذا طرف من حديث سيأتي موصولا بعد باب ، وهذا اللفظ عند مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة ، ومن حديث ثوبان أيضا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال : صلوا على صاحبكم ) هذا طرف من حديث لسلمة بن الأكوع سيأتي موصولا في أوائل الحوالة ، أوله : كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجنازة ، فقالوا : صل عليها ، فقال : هل عليه دين . الحديث .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 227 ] قوله : ( وقال : صلوا على النجاشي ) تقدم الكلام عليه قريبا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( سماها صلاة ) أي يشترط فيها ما يشترط في الصلاة وإن لم يكن فيها ركوع ولا سجود ، فإنه لا يتكلم فيها ، ويكبر فيها ، ويسلم منها بالاتفاق ، وإن اختلف في عدد التكبير والتسليم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وكان ابن عمر لا يصلي إلا طاهرا ) وصله مالك في الموطأ عن نافع بلفظ : إن ابن عمر كان يقول : لا يصلي الرجل على الجنازة إلا وهو طاهر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولا يصلي عند طلوع الشمس ولا غروبها ) وصله سعيد بن منصور من طريق أيوب ، عن نافع قال : كان ابن عمر إذا سئل عن الجنازة بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر يقول : ما صليتا لوقتهما .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : " ما " في قوله : ( ما صليتا ) ظرفية ، يدل عليه رواية مالك ، عن نافع قال : كان ابن عمر يصلي على الجنازة بعد الصبح والعصر إذا صليتا لوقتهما . ومقتضاه أنهما إذا أخرتا إلى وقت الكراهة عنده لا يصلى عليها حينئذ ، ويبين ذلك ما رواه مالك أيضا ، عن محمد بن أبي حرملة : إن ابن عمر قال ، وقد أتي بجنازة بعد صلاة الصبح بغلس : إما أن تصلوا عليها ، وإما أن تتركوها حتى ترتفع الشمس . فكأن ابن عمر يرى اختصاص الكراهة بما عند طلوع الشمس وعند غروبها لا مطلق ما بين الصلاة وطلوع الشمس أو غروبها . وروى ابن أبي شيبة من طريق ميمون بن مهران قال : كان ابن عمر يكره الصلاة على الجنازة إذا طلعت الشمس وحين تغرب . وقد تقدم ذلك عنه واضحا في " باب الصلاة في مسجد قباء " وإلى قول ابن عمر في ذلك ذهب مالك ، والأوزاعي والكوفيون وأحمد ، وإسحاق .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ويرفع يديه ) وصله البخاري في " كتاب رفع اليدين " و " الأدب المفرد " من طريق عبيد الله بن عمر ، عن نافع عن ابن عمر : " إنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة على الجنازة . وقد روي مرفوعا ، أخرجه الطبراني في الأوسط من وجه آخر عن نافع ، عن ابن عمر بإسناد ضعيف . [1]

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال الحسن إلخ ) لم أره موصولا ، وقوله : " من رضوه " في رواية الحموي ، والمستملي : " من رضوهم " بصيغة الجمع . وفائدة أثر الحسن هذا بيان أنه نقل عن الذين أدركهم ، وهو جمهور الصحابة أنهم كانوا يلحقون صلاة الجنازة بالصلوات التي يجمع فيها ، وقد جاء عن الحسن : " أن أحق الناس بالصلاة على الجنازة الأب ، ثم الابن " . أخرجه عبد الرزاق ، وهي مسألة اختلاف بين أهل العلم ، فروى ابن أبي شيبة عن جماعة ، منهم سالم ، والقاسم ، وطاوس أن إمام الحي أحق . وقال علقمة ، والأسود وآخرون : الوالي أحق من الولي ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وقال أبو يوسف ، والشافعي : الولي أحق من الوالي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإذا أحدث يوم العيد أو عند الجنازة يطلب الماء ولا يتيمم ) يحتمل أن يكون هذا الكلام معطوفا على أصل الترجمة ، ويحتمل أن يكون بقية كلام الحسن ، وقد وجدت عن الحسن في هذه المسألة اختلافا ، فروى سعيد بن منصور ، عن حماد بن زيد ، عن كثير بن شنظير قال : " سئل الحسن عن الرجل يكون في الجنازة [ ص: 228 ] على غير وضوء ، فإن ذهب يتوضأ تفوته ، قال : يتيمم ويصلي " . وعن هشيم ، عن يونس ، عن الحسن مثله . وروى ابن أبي شيبة ، عن حفص ، عن أشعث عن الحسن قال : " لا يتيمم ولا يصلي إلا على طهر " . وقد ذهب جمع من السلف إلى أنه يجزي لها التيمم لمن خاف فواتها لو تشاغل بالوضوء ، وحكاه ابن المنذر ، عن عطاء ، وسالم ، والزهري ، والنخعي ، وربيعة ، والليث والكوفيين ، وهي رواية عن أحمد ، وفيه حديث مرفوع عن ابن عباس رواه ابن عدي وإسناده ضعيف . [2]

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإذا انتهى إلى الجنازة يدخل معهم بتكبيرة ) وجدت هذا الأثر عن الحسن وهو يقوي الاحتمال الثاني ، قال ابن أبي شيبة : حدثنا معاذ ، عن أشعث ، عن الحسن في الرجل ينتهي إلى الجنازة وهم يصلون عليها ، قال : يدخل معهم بتكبيرة . والمخالف في هذا بعض المالكية . وفي مختصر ابن الحاجب : وفي دخول المسبوق بين التكبيرتين أو انتظار التكبير قولان . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال ابن المسيب إلخ ) لم أره موصولا عنه ، ووجدت معناه بإسناد قوي عن عقبة بن عامر الصحابي ، أخرجه ابن أبي شيبة عنه موقوفا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال أنس التكبيرة الواحدة استفتاح الصلاة ) وصله سعيد بن منصور ، عن إسماعيل بن علية ، عن يحيى بن أبي إسحاق ، قال : قال رزيق بن كريم لأنس بن مالك : رجل صلى فكبر ثلاثا ، قال أنس : أوليس التكبير ثلاثا ؟ قال : يا أبا حمزة التكبير أربع . قال : أجل ، غير أن واحدة هي استفتاح الصلاة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال ) أي : الله سبحانه وتعالى ولا تصل على أحد منهم وهذا معطوف على أصل الترجمة .

                                                                                                                                                                                                        وقوله : ( وفيه صفوف وإمام ) معطوف على قوله : " وفيها تكبير وتسليم " . قرأت بخط مغلطاي : كأن البخاري أراد الرد على مالك ، فإن ابن العربي نقل عنه أنه استحب أن يكون المصلون على الجنازة سطرا واحدا ، قال : ولا أعلم لذلك وجها . وقد تقدم حديث مالك بن هبيرة في استحباب الصفوف . ثم أورد المصنف حديث ابن عباس في الصلاة على القبر ، وسيأتي الكلام عليه قريبا ، وموضع الترجمة منه قوله : " فأمنا فصففنا خلفه " . قال ابن رشيد نقلا عن ابن المرابط وغيره ما محصله : مراد هذا الباب الرد على من يقول : إن الصلاة على الجنازة إنما هي دعاء لها واستغفار ، فتجوز على غير طهارة ، فأول المصنف الرد عليه من جهة التسمية التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة ، ولو كان الغرض الدعاء وحده لما أخرجهم إلى البقيع ، ولدعا في المسجد ، وأمرهم بالدعاء معه أو التأمين على دعائه ، ولما صفهم خلفه كما يصنع في الصلاة المفروضة والمسنونة ، وكذا وقوفه في الصلاة وتكبيره في افتتاحها وتسليمه في التحلل منها كل ذلك دال على أنها على الأبدان ، لا على اللسان وحده ، وكذا امتناع الكلام فيها ، وإنما لم يكن فيها ركوع ولا سجود لئلا يتوهم بعض الجهلة أنها عبادة للميت فيضل بذلك . انتهى . ونقل ابن عبد البر الاتفاق على اشتراط الطهارة لها إلا عن الشعبي ، قال ووافقه إبراهيم بن علية وهو ممن يرغب عن كثير من قوله . ونقل غيره أن ابن جرير الطبري وافقهما على ذلك ، وهو مذهب شاذ ، قال ابن رشيد : وفي استدلال البخاري - بالأحاديث التي صدر بها [ ص: 229 ] الباب من تسميتها صلاة - لمطلوبه من إثبات شرط الطهارة إشكال ، لأنه إن تمسك بالعرف الشرعي عارضه عدم الركوع والسجود ، وإن تمسك بالحقيقة اللغوية عارضته الشرائط المذكورة ، ولم يستو التبادر في الإطلاق ، فيدعي الاشتراك لتوقف الإطلاق على القيد عند إرادة الجنازة بخلاف ذات الركوع والسجود ، فتعين الحمل على المجاز . انتهى . ولم يستدل البخاري على مطلوبه بمجرد تسميتها صلاة بل بذلك ، وبما انضم إليه من وجود جميع الشرائط إلا الركوع والسجود . وقد تقدم ذكر الحكمة في حذفهما منها ، فبقي ما عداهما على الأصل . وقال الكرماني : غرض البخاري بيان جواز إطلاق الصلاة على صلاة الجنازة وكونها مشروعة ، وإن لم يكن فيها ركوع وسجود ، فاستدل تارة بإطلاق اسم الصلاة والأمر بها ، وتارة بإثبات ما هو من خصائص الصلاة نحو عدم التكلم فيها ، وكونها مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم ، وعدم صحتها بدون الطهارة ، وعدم أدائها عند الوقت المكروه ، وبرفع اليد وإثبات الأحقية بالإمامة ، وبوجوب طلب الماء لها ، وبكونها ذات صفوف وإمام . قال : وحاصله أن الصلاة لفظ مشترك بين ذات الأركان المخصوصة وبين صلاة الجنازة ، وهو حقيقة شرعية فيهما ، انتهى كلامه . وقد قال بذلك غيره . ولا يخفى أن بحث ابن رشيد أقوى ، ومطلوب المصنف حاصل كما قدمته بدون الدعوى المذكورة ، بل بإثبات ما مر من خصائصها كما تقدم . والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية