الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
تفريعات .

الأول : الأشياء التي يجب ردها عند الإشكال إلى أصولها .

فيجب رد المتشابهات في الذات والصفات إلى محكم ليس كمثله شيء ( الشورى : 11 ) .

ورد المتشابهات في الأفعال إلى قوله : قل فلله الحجة البالغة ( الأنعام : 149 ) وكذلك الآيات الموهمة نسبة الأفعال لغير الله تعالى من الشيطان والنفس ، ترد إلى محكم قوله تعالى : ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ( الأنعام : 125 ) وما كان من ذلك عن تنزل الخطاب ، أو ضرب مثال ، أو عبارة عن مكان أو زمان أو معية ، أو ما يوهم التشبيه ، فمحكم ذلك قوله : ليس كمثله شيء ( الشورى : 11 ) ، وقوله : ولله المثل الأعلى ( النحل : 60 ) ، وقوله : قل هو الله أحد ( الإخلاص : 1 ) .

ومنه ضرب في تفصيل ذكر النبوة ووصف إلقاء الوحي ، ومحكمه قوله تعالى : [ ص: 202 ] إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( الحجر : 9 ) ، وقوله : وما ينطق عن الهوى ( النجم : 3 ) .

ومنه ضرب في الحلال والحرام ، ومن ثم اختلف الأئمة في كثير من الأحكام بحسب فهمهم لدلالة القرآن .

ومنه شيء يتقارب فيه بين اللمتين : لمة الملك ولمة الشيطان لعنه الله ، ومحكم ذلك قوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان ( النحل : 90 ) الآية ، ولهذا قال عقبه : يعظكم لعلكم تذكرون ( النحل : 90 ) أي عندما يلقى العدو الذي لا يأمر بالخير بل بالشر والإلباس .

ومنه الآيات التي اختلف المفسرون فيها على أقوال كثيرة تحتملها الآية ، ولا يقطع على واحد من الأقوال ، وأن مراد الله منها غير معلوم لنا مفصلا بحيث يقطع به .

الثاني : أن هذه الآية من المتشابه - أعني قوله : وأخر متشابهات الآية ( آل عمران : 7 ) من حيث تردد الوقف فيها بين أن يكون على ( إلا الله ) وبين أن يكون على والراسخون في العلم يقولون آمنا به ( آل عمران : 7 ) وتردد الواو في ( والراسخون ) بين الاستئناف والعطف ، ومن ثم ثار الخلاف في ذلك .

فمنهم من رجح أنها للاستئناف ، وأن الوقف على ( إلا الله ) وأن الله تعبد من كتابه بما لا يعلمون - وهو المتشابه - كما تعبدهم من دينه بما لا يعقلون - وهو التعبدات - ولأن قوله : يقولون آمنا به متردد بين كونه حالا فضلة ، وخبرا عمدة ، والثاني أولى .

ومنهم من رجح أنها للعطف ; لأن الله تعالى لم يكلف الخلق بما لا يعلمون ; وضعف الأول ، لأن الله لم ينزل شيئا من القرآن إلا لينتفع به عباده ; ويدل به على معنى أراده ، فلو كان المتشابه لا يعلمه غير الله للزمنا ، ولا يسوغ لأحد أن يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلم المتشابه ; فإذا جاز أن يعرفه الرسول مع قوله : وما يعلم تأويله إلا الله ( آل عمران : 7 ) جاز أن يعرفه الربانيون من صحابته ، والمفسرون من أمته . ألا ترى أن ابن [ ص: 203 ] عباس كان يقول : أنا من الراسخين في العلم ، ويقول عند قراءة قوله في أصحاب الكهف : ما يعلمهم إلا قليل ( الكهف : 22 ) أنا من أولئك القليل .

وقال مجاهد في قوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ( آل عمران : 7 ) يعلمونه و يقولون آمنا به ( آل عمران : 7 ) ولو لم يكن للراسخين في العلم حظ من المتشابه إلا أن يقولوا : ( آمنا ) لم يكن لهم فضل على الجاهل ; لأن الكل قائلون ذلك ، ونحن لم نر المفسرين إلى هذه الغاية توقفوا عن شيء من القرآن ، فقالوا هو متشابه لا يعلمه إلا الله ، بل أمروه على التفسير ، حتى فسروا الحروف المقطعة .

فإن قيل : كيف يجوز في اللغة أن يعلم الراسخون ، والله يقول : والراسخون في العلم يقولون آمنا به ( آل عمران : 7 ) وإذا أشركهم في العلم انقطعوا عن قوله : ( يقولون ) لأنه ليس هنا عطف حتى يوجب للراسخين فعلين ؟ .

قلنا : إن ( يقولون ) هنا في معنى الحال كأنه قال : والراسخون في العلم قائلين آمنا ; كما قال الشاعر :


الريح تبكي شجوها والبرق يلمع في غمامه

أي لامعا .

وقيل : المعنى ( يعلمون ويقولون ) فحذف واو العطف كقوله : وجوه يومئذ ناضرة ( القيامة : 22 ) والمعنى ; يقولون : علمنا وآمنا ; لأن الإيمان قبل العلم محال ; إذ لا يتصور الإيمان مع الجهل ، وأيضا لو لم يعلموها لم يكونوا من الراسخين ، ولم يقع الفرق بينهم وبين الجهال .

[ ص: 204 ] الثالث : ومن هذا الخلاف نشأ الخلاف في أنه : هل في القرآن شيء لا تعلم الأمة تأويله ؟ قال الراغب في مقدمة تفسيره : وذهب عامة المتكلمين إلى أن كل القرآن يجب أن يكون معلوما ، وإلا لأدى إلى إبطال فائدة الانتفاع به ، وحملوا قوله : ( والراسخون ) بالعطف على قوله : ( إلا الله ) ، وقوله : ( يقولون ) جملة حالية .

قال : ذهب كثير من المفسرين إلى أنه يصح أن يكون في القرآن بعض ما لا يعلم تأويله إلا الله ، قال ابن عباس : أنزل الله القرآن على أربعة أوجه : حلال وحرام ، ووجه لا يسع أحدا جهالته ، ووجه تعرفه العرب ، ووجه تأويل لا يعلمه إلا الله .

وقال بعضهم : المتشابه اسم لمعنيين :

أحدهما : لما التبس من المعنى لدخول شبهه بعضه في بعض نحو قوله : إن البقر تشابه علينا ( البقرة : 70 ) الآية .

والثاني : اسم لما يوافق بعضه بعضا ، ويصدقه قوله تعالى : كتابا متشابها مثاني ( الزمر : 23 ) الآية .

فإن كان المراد بالمتشابه في القرآن الأول ، فالظاهر أنه لا يمكنهم الوصول إلى مراده ، وإن جاز أن يطلعهم عليه بنوع من لطفه ; لأنه اللطيف الخبير . وإن كان المراد الثاني ، جاز أن يعلموا مراده .

الرابع : قيل : ما الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده البيان والهدى ؟

قلنا : إن كان ممن يمكن علمه فله فوائد ; منها : ليحث العلماء على النظر الموجب للعلم [ ص: 205 ] بغوامضه ، والبحث عن دقائق معانيه ، فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب ، وحذرا مما قال المشركون : إنا وجدنا آباءنا على أمة ( الزخرف : 22 ) ، وليمتحنهم ويثيبهم كما قال : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ( الروم : 27 ) الآية ، وقوله : ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( سبأ : 4 ) فنبههم على أن أعلى المنازل هو الثواب ، فلو كان القرآن كله محكما لا يحتاج إلى تأويل لسقطت المحنة ، وبطل التفاضل ، واستوت منازل الخلق ، ولم يفعل الله ذلك ، بل جعل بعضه محكما ليكون أصلا للرجوع إليه ، وبعضه متشابها يحتاج إلى الاستنباط والاستخراج ورده إلى المحكم ، ليستحق بذلك الثواب الذي هو الغرض ، وقد قال تعالى : ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ( آل عمران : 142 ) .

ومنها : إظهار فضل العالم على الجاهل ، ويستدعيه علمه إلى المزيد في الطلب في تحصيله ، ليحصل له درجة الفضل ، والأنفس الشريفة تتشوف لطلب العلم وتحصيله .

وأما إن كان ممن لا يمكن علمه فله فوائد ; منها : إنزاله ابتلاء وامتحانا بالوقف فيه والتعبد بالاشتغال من جهة التلاوة وقضاء فرضها ، وإن لم يقفوا على ما فيها من المراد الذي يجب العمل به ، اعتبارا بتلاوة المنسوخ من القرآن وإن لم يجز العمل بما فيه من المحكم ، ويجوز أن يمتحنهم بالإيمان بها إن لم يقفوا على حقيقة المراد ، فيكون في هذا نوع امتحان ، وفي ذلك هدم لمذهب الاعتزال ، حيث ادعوا وجوب رعاية الأصلح .

ومنها : إقامة الحجة بها عليهم ; وذلك إنما نزل بلسانهم ولغتهم ، ثم عجزوا عن الوقوف على ما فيها مع بلاغتهم وأفهامهم ; فيدل على أن الذي أعجزهم عن الوقوف هو الذي أعجزهم عن تكرر الوقوف عليها ، وهو الله سبحانه .

الخامس : أثار بعضهم سؤالا وهو : هل للمحكم مزية على المتشابه بما يدل عليه ، أو هما سواء ؟ والثاني خلاف الإجماع ، والأول ينقض أصلكم أن جميع كلامه سبحانه سواء وأنه نزل بالحكمة .

وأجاب أبو عبد الله محمد بن أحمد البكراباذي بأن المحكم كالمتشابه من [ ص: 206 ] وجه ، ويخالفه من وجه ، فيتفقان في أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الواضع ، وأنه لا يختار القبيح ، ويختلفان في أن المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا الوجه الواحد ، فمن سمعه أمكنه أن يستدل به في الحال ، والمتشابه يحتاج إلى ذكر مبتدأ ونظر مجدد عند سماعه ليحمله على الوجه المطابق ; ولأن المحكم آصل ، والعلم بالأصل أسبق ، ولأن المحكم يعلم مفصلا ، والمتشابه لا يعلم إلا مجملا .

فإن قيل : إذا كان المحكم بالوضع كالمتشابه ، وقد قلتم إن من حق هذه اللغة أن يصح فيها الاحتمال ويسوغ التأويل ، فبما يميز المحكم في أنه لا بد له من مزية ، سيما والناس قد اختلفوا فيهما كاختلافهم في المذاهب ، فالمحكم عند السني متشابه عند القدري ؟

فالجواب أن الوجه الذي أوردته يلجئ إلى الرجوع إلى العقول فيما يتعلق بالتفريد والتنزيه ، فإن العلم بصحة خطابه يفتقر إلى العلم بحكمته ، وذلك يتعلق بصفاته ، فلا بد من تقدم معرفته ليصح له مخرج كلامه ، فأما في الكلام فيما يدل على الحلال والحرام فلا بد من مزية للمحكم ، وهو أن يدل ظاهره على المراد أو يقتضي بالضمانة أنه مما لا يحتمل الوجه الواحد .

وللمحكم في باب الحجاج عند غير المخالف مزية ; لأنه لا يمكن أن يبين له أنه مخالف للقرآن ، وأن ظاهر المحكم يدل على خلاف ما ذهب إليه ، وإن تمسك بمتشابه القرآن ، وعدل عن محكمه ، لما أنه تمسك بالشبه العقلية وعدل عن الأدلة السمعية ، وذلك لطف وبعث على النظر ; لأن المخالف المتدين يؤثر ذلك ليتفكر فيه ويعمل ، فإن اللغة وإن توقفت محتملة ، ففيها ما يدل ظاهره على أمر واحد ، وإن جاز صرفه إلى غيره بالدليل ، ثم يختلف ، ففيه ما يكره صرفه لاستبعاده في اللغة .

التالي السابق


الخدمات العلمية