الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 218 ] النوع الثامن والثلاثون

معرفة إعجازه

وقد اعتنى بذلك الأئمة ، وأفردوه بالتصنيف ; منهم القاضي أبو بكر بن الباقلاني ، قال [ ص: 219 ] [ ص: 220 ] [ ص: 221 ] [ ص: 222 ] [ ص: 223 ] ابن العربي : ولم يصنف مثله ، وكتاب الخطابي ، والرماني ، . . . . . . . . . [ ص: 224 ] والبرهان لعزيزي وغيرهم .

وهو علم جليل القدر ، عظيم القدر ; لأن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم معجزتها الباقية القرآن ، وهو يوجب الاهتمام بمعرفة الإعجاز ، قال تعالى : كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ( إبراهيم : 1 ) ، وقال سبحانه : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ( التوبة : 6 ) فلولا أن سماعه إياه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه ، ولا تكون حجة إلا وهي معجزة ، وقال تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ( العنكبوت : 50 و 51 ) فأخبر أن الكتاب آية من آياته ، وأنه كاف في الدلالة ، قائم مقام معجزات غيره وآيات سواه من الأنبياء .

ولما جاء به صلى الله عليه وسلم إليهم - وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء - تحداهم على أن يأتوا بمثله وأمهلهم طول السنين ، فلم يقدروا ، يقال تحدى فلان فلانا إذا دعاه إلى أمر ليظهر عجزه فيه ونازعه الغلبة في قتال أو كلام غيره ، ومنه " أنا حدياك " ، أي ابرز لي وحدك .

واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدى العرب قاطبة بالقرآن حين قالوا : افتراه ، فأنزل الله عز وجل عليه : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ( هود : 13 ) فلما عجزوا عن الإتيان بعشر سور تشاكل القرآن ، قال تعالى : قل فأتوا بسورة مثله ( يونس : 38 ) ثم كرر هذا فقال : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ( البقرة : 23 ) أي من كلام مثله ، وقيل : من بشر مثله ، ويحقق القول الأول [ ص: 225 ] الآيتان السابقتان ; فلما عجزوا عن أن يأتوا بسورة تشبه القرآن على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء ، قال : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ( الإسراء : 88 ) فقد ثبت أنه تحداهم به ، وأنهم لم يأتوا بمثله لعجزهم عنه ، لأنهم لو قدروا على ذلك لفعلوا ، ولما عدلوا إلى العناد تارة والاستهزاء أخرى ، فتارة قالوا : ( سحر ) ، وتارة قالوا : ( شعر ) ، وتارة قالوا : ( أساطير الأولين ) ; كل ذلك من التحير والانقطاع .

قال ابن أبي طالب مكي في ( اختصاره نظم القرآن للجرجاني ) قال المؤلف : أنزله بلسان عربي مبين بضروب من النظم مختلفة على عادات العرب ، ولكن الأعصار تتغير وتطول ، فيتغير النظم عند المتأخرين لقصور أفهامهم ، والنظر كله جار على لغة العرب ، ولا يجوز أن ينزله على نظم ليس من لسانهم ; لأنه لا يكون حجة عليهم بدليل قوله تعالى : أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله ( يونس : 38 ) ، وفي قوله : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ( يونس : 39 ) فأخبر أنهم لم يعلموه لجهلهم به ; وهو كلام عربي .

قال أبو محمد : لا يحتمل أن يكون جهلهم إلا من قبل أنهم أعرضوا عن قبوله ، ولا يجوز أن يكون نزل بنظم لم يعرفوه ; إذ لا يكون عليهم حجة ، وجهلنا بالنظم لتأخرنا عن رتب القوم الذي نزل عليهم جائز ، ولا يمنع . فمن نزل عليهم كان يفهمه إذا تدبره لأنه بلغته ، ونحن إنما نفهم بالتعليم ، انتهى .

وهذا الذي قاله مشكل ، فإن كبار الصحابة رضي الله عنهم حفظوا البقرة في مدة متطاولة ; لأنهم كانوا يحفظون مع التفهم .

وإعجاز القرآن ذكر من وجهين :

أحدهما : [ ص: 226 ] إعجاز متعلق بنفسه . والثاني : بصرف الناس عن معارضته .

ولا خلاف بين العقلاء أن كتاب الله معجز ، واختلفوا في إعجازه ، فقيل : إن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات ، وإن العرب كلفت في ذلك ما لا تطيق ، وفيه وقع عجزها . والجمهور على أنه إنما وقع بالدال على القديم وهو الألفاظ .

فإذا ثبت ذلك فاعلم أنه لا يصح التحدي بشيء مع جهل المخاطب بالجهة التي وقع بها التحدي ، ولا يتجه قول القائل لمثله : إن صنعت خاتما كنت قادرا على أن تصنع مثله ; إلا بعد أن يمكنه من الجهة التي تدعي عجز المخاطب عنها .

فنقول : الإعجاز في القرآن العظيم إما أن يعني بالنسبة إلى ذاته ، أو إلى عوارضه من الحركات والتأليف ، أو إلى مدلوله أو إلى المجموع ، أو إلى أمر خارج عن ذلك ، لا جائز أن يكون الإعجاز حصل من جهة ذوات الكلم المفردة فقط ; لأن العرب قاطبة كانوا يأتون بها ; ولا جائز أن يكون الإعجاز وقع بالنسبة إلى العوارض من الحركات والتألف فقط ; لأنه يحوج إلى ما تعاطاه مسيلمة من الحماقة : ( إنا أعطيناك الجواهر . فصل لربك وهاجر . إن شانئك هو الكافر ) .

ولو كان الإعجاز راجعا إلى الإعراب والتأليف المجرد لم يعجز صغيرهم عن تأليف ألفاظ معربة فضلا عن كبيرهم ، ولا جائز أن يقع بالنسبة إلى المعاني فقط ; لأنها ليست من صنيع البشر وليس لهم قدرة على إظهارها ، من غير ما يدل عليها ، وأيضا لقالوا : لقد قلنا مثله ولكن لم نلفظ بما يدل عليه ، ولا جائز أن ترجع إلى المجموع لأنا قد بينا بطلانه بالنسبة إلى كل واحد ، فيتعين أن يكون الإعجاز لأمر خارج غير ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية