الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              [ ص: 364 ] الآية الثالثة قوله تعالى : { الذي علم بالقلم } : فيها خمس مسائل :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الأولى الأقلام في الأصل ثلاثة : القلم الأول كما ثبت في الحديث : { أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فكتب ما كان وما يكون إلى يوم الساعة ، فهو عنده في الذكر فوق عرشه } .

                                                                                                                                                                                                              القلم الثاني : ما جعل الله بأيدي الملائكة يكتبون به المقادير والكوائن والأعمال ، وذلك قوله تعالى : { كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون } خلق الله لهم الأقلام ، وعلمهم الكتاب بها .

                                                                                                                                                                                                              القلم الثالث أقلام الناس ، جعلها الله تعالى بأيديهم يكتبون بها كلامهم ، ويصلون بها إلى مآربهم ، والله أخرج الخلق من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ، وخلق لهم السمع والبصر والنطق حسبما بيناه في كتاب قانون التأويل ، ثم رزقهم معرفة العبادة باللسان على ثمانية وعشرين [ وجها ، وقيل ] حرفا يضطرب بها اللسان بين الحنك والأسنان فيتقطع الصوت تقطيعا يثبت عنه مقطعاته على نظام متسق قرنت به معارف في أفرادها وفي تأليفها ، وألقى إلى العبد معرفة أدائها ، فذلك قوله : { وعلمك ما لم تكن تعلم } .

                                                                                                                                                                                                              ثم خلق الله اليد والقدرة ، ورزقه العلم [ والرتبة ] ، وصور له حروفا تعادل له الصور المحسوسة في إظهار المعنى المنقول في النطق ، فيقابل هذا مكتوبا ذلك الملفوظ ، ويقابل الملفوظ ما ترتب في القلب ، ويكون الكل سواء ، ويحصل به العلم ، { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية جعل الله هذا كله مرتبا للخلق ، ونظاما للآدميين ، ويسره فيهم ; فكان أقل الخلق به معرفة العرب ، وأقل العرب به معرفة [ الحجازيون ، وأعدم الحجازيين به معرفة ] المصطفى صلى الله عليه وسلم [ صرفه ] عن علمه ، ليكون ذلك أثبت لمعجزته ، وأقوى في حجته .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 365 ] المسألة الثالثة ولكل أمة تقطيع في الأصوات على نظام يعبر عما في النفس ، ولهم صورة في الخط تعبر عما يجري به اللسان ، وفي اختلاف ألسنتكم وألوانكم دليل قاطع على ربكم القادر العليم الحكيم الحاكم ; وأم اللغات وأشرفها العربية ، لما هي عليه من إيجاز اللفظ ، وبلوغ المعنى ، وتصريف الأفعال وفاعليها ومفعوليها ، كلها على لفظ واحد ، الحروف واحدة ، والأبنية في الترتيب مختلفة ، وهذه قدرة وسيعة وآية بديعة .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة لكل أمة حروف مصورة بالقلم موضوعة على الموافقة لما في نفوسهم من الكلم ، على حسب مراتب لغاتهم ، من عبراني ، ويوناني ، وفارسي ، وغير ذلك من أنواع اللغات أو عربي ; وهو أشرفها ، وذلك كله مما علم الله لآدم عليه السلام حسبما جاء في القرآن في قوله : { وعلم آدم الأسماء كلها } ; فلم يبق شيء إلا وعلم الله سبحانه آدم اسمه بكل لغة ، وذكره آدم للملائكة كما علمه ، وبذلك ظهر فضله ، وعظم قدره ، وتبين علمه ، وثبتت نبوته ، وقامت حجة الله على الملائكة ، وحجته ، وامتثلت الملائكة لما رأت من شرف الحال ، ورأت من جلال القدرة ، وسمعت من عظيم الأمر ، ثم توارثت ذلك ذريته خلفا بعد سلف ، وتناقلوه قوما عن قوم ، تحفظه أمة وتضيعه أخرى ، والبارئ سبحانه يضبط على الخلق بالوحي منه ما شاء على من شاء من الأمم على مقاديرها ومجرى حكمه فيها ، حتى جاء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وتعلم العربية من جيرته جرهما ، وزوجوه فيهم ، واستقر بالحرم ، فنزل عليه جبريل فعلمه العربية غضة طرية ، وألقاها إليه صحيحة فصيحة سوية ، واستطرب على الأعقاب في الأحقاب إلى أن وصلنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فشرف وشرفت بالقرآن العظيم ، وأوتي جوامع الكلام ، وظهرت حكمته وحكمه ، وأشرق على الآفاق فهمه وعلمه ، والحمد لله .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية