الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 79 ] هل تتفاوت العلوم ؟ فيه قولان : قال في البرهان " : وأئمتنا على التفاوت ، وقرره المازري . وقال الأرموي في التحصيل " : إنه الحق ، وقال ابن التلمساني ، المحققون على عدم تفاوتها ، وإنما التفاوت بحسب المتعلقات ، واختاره إلكيا الطبري في كتاب الترجيح " ، والإمام في البرهان " ، والأنباري في شرحه ، ونقل في البرهان " في الترجيح عن الأئمة أن المعقولات لا ترجيح فيها .

                                                      قلت : بناء على أنه لا يمكن تعارضها بخلاف تفاوتها في رتبتها فإنه ممكن عند المحققين . واختار الإمام في تفسيره عدم التفاوت في نفس العلم ، بل في طريقه بالنسبة إلى كثرة المقدمات وقلتها ووضوحها وخفائها [ ص: 80 ] وقال القرافي : وقعت هذه المسألة بين الشيخ عز الدين والأفضل الخونجي . واختار الشيخ عدم التفاوت ، وعكس الخونجي . قال القرافي : ولأجل التفاوت قال أهل الحق : رؤية الله يعني في الآخرة للمؤمنين عبارة عن خلق علم به هو أجلى من مطلق العلم نسبته إليه كنسبة إدراك الحس إلى المحس به . قال : وكذلك سماع الكلام النفساني . قال : وهذه عقائد لا تتأتى إلا على القول بعدم التفاوت . ا هـ .

                                                      وظاهر كلام الصيرفي أنه لا تتفاوت . قال : وإنما جاء ذلك من جهة أن بعض الدلائل أوضح من بعض كالبصر المدرك لما قرب إليه إدراكا بخلاف ما بعد منه عن المسافة ، وإن كان الإدراك من جوهر واحد ، فمنه ما يقع جليا ، ومنه ما يقع مع التحديق والتأمل ، وكذلك منزلة الفكر والتدبر ، وظاهر كلام القفال الشاشي تفاوتها ، فإنه قال : امتحن الله عباده ، وفرق بين وجوه العلم ، فجعل منه الخفي ومنه الجلي ; لأن الدلائل لو كانت كلها جلية لارتفع التنازع وزال الاختلاف ، وما احتيج إلى تدبر وفكر ، ولبطل الابتلاء ، ولم يقع الامتحان ، ولا وجد شك ولا ظن ولا جهل ; لأن العلم حينئذ يكون طبقا . ولو كانت كلها خفية لم يتوصل إلى معرفة شيء منها ، إذ الخفي لا يعلم بنفسه ، وإلا لكان جليا . قال الله تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } قال : وإذا ثبت أنه ليس بخفي ولا جلي ثبت أن منه ما هو جلي ، ومنه ما هو خفي . ا هـ [ ص: 81 ]

                                                      فحصل وجهان لأصحابنا أصحهما : التفاوت ، وعلى هذا وقع الفرق بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين ، وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده ، وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ليس الخبر كالمعاينة إن موسى لم يلق الألواح لما سمع عن قومه وألقاها حين رآهم } . وقال أئمة الحقيقة : العلم بالله إن كان بالأدلة فهو علم اليقين ، فإذا قوي فهو عين اليقين ، فإذا فني فيه فهو حق اليقين . ويقال : علم اليقين كالناظر إلى البحر ، وعين اليقين كراكب البحر ، وحق اليقين كمن غرق في البحر . ا هـ . وقد أورد على القائلين بعدم التفاوت أنه يكون علم الأمم مماثلا لعلوم الأنبياء صلى الله عليهم وسلم ، ولا شك أن علمهم مفاوت لعلمنا وكذلك رجحان بعض المؤمنين على بعضهم في المعارف .

                                                      وأجيب بوجهين : أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على صفة للباري تعالى لم يطلع عليها غيره ، فيكون ذلك راجعا إلى زيادة علم بمعلوم آخر ، وليس ذلك تفاوتا في العلم . الثاني : يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم علم ربه بوجوه أدلة لم نطلع نحن على جميعها ، فيرجع التفاوت إلى أعداد المعلوم ، لا إلى نفس العلم . وأما رجحان المؤمنين بعضهم على بعض فمحمول على زيادة المعارف وتواليها إذا حصلت بلا فترة ، ولا غفلة [ ص: 82 ] ثم إذا ظهر التفاوت بهذا الاعتبار تفاوت العارفون باعتبار قلة الغفلة وكثرتها ، وقلة المعارف وكثرتها ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : { لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا } فهذا إشارة إلى كثرة المعلومات لا إلى التفاوت في العلم الواحد بالمعلوم الواحد . ولو كانت الإشارة إلى هذا لقال : لو تعلمون كما أعلم فهذه عبارة التفاوت في نفس العلم ، وقال أيضا في التفاوت باعتبار اعتراض الغفلات قلة وكثرة : { لو تكونون كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة } مشيرا إلى أن الغفلة تختلسهم في غيبتهم عنه وتتحاماهم بحضرته تلك الحضرة المقدسة صلوات الله على صاحبها وسلامه . فإن قيل : إذا تعذر التفاوت في ذوات العلوم ، فلم لا أضيف التفاوت إلى طرقها ؟ فمنها البديهي ، ومنها النظري . قلنا : إذا حققت الحقائق فكل علم نظري يتوقف على علم بمقدمتين لا يزيد ولا ينقص . فإن قلت : فنرى بعض المعارف يصعب وبعضها يسهل . قلت : ذلك التفاوت يظن به أنه نشأ عن كثرة المقدمات للعلم الواحد ، وليس كذلك ، وإنما هي معلومات ترتب بعضها على بعض ، ولكل معلوم مقدمتان ، فما جاء التفاوت إلا من جهة كثرة المحصل من المعارف ، وقلته لا من بعد الطريق وقربها ، والمعلوم واحد .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية