الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ التنبيه ] الخامس [ جريان الخلاف في خطاب التكليف ]

                                                      إن الخلاف جار في خطاب التكليف بأسره ، فكل واجب أو محرم هو من محل الخلاف وكذا المندوب والمباح بمعنى أن كل ما أبيح فهو مباح في حقهم عند من يرى شمول الخطاب لهم . واستشكل بعضهم تعلق الإباحة بهم إذا قلنا بتكليفهم ، وقلنا : الإباحة تكليف ، فإنه حكى الإجماع على أنه لا يجوز للمكلف الإقدام على فعل وإن كان مباحا في نفس الأمر حتى يعلم حكم الله فيه ، والكفار لا يعتقدون حكم الله فيه حكما صحيحا ، لأنهم يستندون فيه إلى شرعنا اللازم لنا ولهم ، وشرعهم منسوخ .

                                                      ومقتضى هذا البحث أن يأثموا في جميع أفعالهم حتى يؤمنوا ، وفي كلام الشافعي عن بعض أهل العلم ما يشهد له .

                                                      أما خطاب الوضع : فمنه ما يرجع إليه لكون الطلاق سببا لتحريم الزوجة ، فكذلك ، ومنه ما يكون من باب الإتلافات والجنايات فلا يجري فيها الخلاف بل هي أسباب للضمان بالإجماع ، وكذا ثبوت الدين في ذمتهم من هذا النوع ، ووجوب الحدود عليهم .

                                                      والحدود إنما تكون كفارة للمسلمين كما صرح به الشافعي ، والكافر [ ص: 143 ] ليس من أهل الأجر والثواب ، وإنما هي في حقه كالدين اللازم ، ولهذا تجب عليه كفارة الظهار ونحوها ، وينبغي أن يكون الطلاق والأيمان من هذا القبيل . كذا قاله بعض المتأخرين .

                                                      قلت : ولا تصح دعوى الإجماع في الإتلاف والجناية بل الخلاف جار في الجميع . وقد سبق عن الأستاذ أبي إسحاق : أن الحربي إذا قتل مسلما أو أتلف عليه مالا ثم أسلم أنه يجب عليه ضمانها إذا قلنا : الكفار مخاطبون بالفروع . ونقلوا وجهين أيضا فيما لو دخل الكافر الحرم وقتل صيدا هل يضمنه ؟ أصحهما : نعم . قال صاحب الوافي " : وهما شبيهان بالوجهين في تمكينه من المسجد إن كان جنبا . يعني نظرا لعقيدته ، بل قال إمام الحرمين في " الأساليب " من كتاب السير : إن الكفار إذا استولوا على مال المسلمين فلا حكم لاستيلائهم ، وأعيان الأموال لأربابها ، وكأنهم في استيلائهم وإتلافهم كالبهائم .

                                                      قال : ومن تقويم هذه المسألة على الخلاف في تكليفهم بالفروع .

                                                      وقال : هم منهيون عن استيلائهم . ا هـ .

                                                      ثم قال هذا المتأخر : ومنه الإرث والملك به ، ولولا ذلك لما ساغ بيعهم لوارثهم وما يشترونه ، ولا معاملتهم وكذا صحة أنكحتهم إذا صدرت على الأوضاع الشرعية ، والخلاف في ذلك لا وجه له .

                                                      ومنه كون الزنا سببا لوجوب الحد وذلك ثابت في حقهم ، ولهذا رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين ، ولا يحسن القول ببناء ذلك على تكليفهم بالفروع ، فإنه كيف يقال بإسقاط الإثم عنهم فيما يعتقدون تحريمه لكفرهم ؟ وقد تقدم عن الأستاذ حكاية الإجماع أن خطاب الزواجر من الزنا والقذف يتوجه عليهم .

                                                      وأما تعلق الزكاة بأموالهم : قلنا : خلاف هل هو تعلق رهن أو جناية [ ص: 144 ] أو شركة ؟ وهو الأصح ، فالظاهر أنه لا يثبت في حقهم . وإن قلنا : إنهم مخاطبون بالزكاة ، لأن المقصود تأثيمهم بتركها لا أخذها منهم حالة كفرهم ، والتعلق المذكور إنما يقصد به تأكد الوجوب لأجل أخذ النصاب الواجب عن الضياع فلا معنى لإبقائه في حق الكافر ، لأنه إن دام على الكفر لم يؤخذ منه ، وإن أسلم سقطت ، وما كان كذلك فلا معنى للتعلق الذي هو يوثقه فيه ، والموجود في حق الكافر إنما هو الأمر بأدائها وهذا مشترك بينهم وبين المسلمين ، وثبوتها في الذمة قدر زائد على ذلك قد يقال به في الكافر أيضا ، وإثبات تعلقها بالدين أمر ثالث يختص بالمسلم ، ولأن المعتمد في ثبوت الشركة قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } ولا يدخل الكافر في ذلك .

                                                      والحاصل : أن الأدلة تنقسم إلى ما يتناولهم نحو { يا أيها الناس } إذا قلنا بتكليفهم بالفروع ، وإلى ما لا يتناولهم نحو { يا أيها الذين آمنوا } ونحوه فلا يتناولهم لفظا ولا يثبت حكمها لهم إلا بدليل منفصل .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية