الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني )

قال أبو جعفر : يعني بقوله : ( لا يعلمون الكتاب ) ، لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزله الله ، ولا يدرون ما أودعه الله من حدوده وأحكامه وفرائضه ، كهيئة البهائم ، كالذي : -

1359 - حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا [ ص: 260 ] معمر ، عن قتادة في قوله ، ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) : إنما هم أمثال البهائم ، لا يعلمون شيئا .

1360 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( لا يعلمون الكتاب ) ، يقول : لا يعلمون الكتاب ولا يدرون ما فيه .

1361 - حدثني المثنى قال ، حدثنا آدم قال ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( لا يعلمون الكتاب ) لا يدرون ما فيه .

1362 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( لا يعلمون الكتاب ) قال : لا يدرون بما فيه .

1363 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : ( لا يعلمون الكتاب ) ، لا يعلمون شيئا ، لا يقرءون التوراة . ليست تستظهر ، إنما تقرأ هكذا . فإذا لم يكتب أحدهم ، لم يستطع أن يقرأ .

1364 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله ، ( لا يعلمون الكتاب ) ، قال : لا يعرفون الكتاب الذي أنزله الله .

قال أبو جعفر : وإنما عني ب " الكتاب " : التوراة ، ولذلك أدخلت فيه " الألف واللام " لأنه قصد به كتاب معروف بعينه .

ومعناه : ومنهم فريق لا يكتبون ، ولا يدرون ما في الكتاب الذي عرفتموه الذي هو عندهم - وهم ينتحلونه ويدعون الإقرار به - من أحكام الله وفرائضه ، وما فيه من حدوده التي بينها فيه .

[ واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ] ( إلا أماني ) فقال بعضهم بما : - [ ص: 261 ] 1365 - حدثنا به أبو كريب قال ، حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( إلا أماني ) ، يقول : إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبا .

1366 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) : إلا كذبا .

1367 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

وقال آخرون بما : -

1368 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( إلا أماني ) ، يقول : يتمنون على الله ما ليس لهم .

1369 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( إلا أماني ) ، يقول : يتمنون على الله الباطل وما ليس لهم .

1370 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح ، [ عن معاوية بن صالح ] ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ، يقول : إلا أحاديث .

1371 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ، قال : أناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا ، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله ، ويقولون : هو من الكتاب أماني يتمنونها .

1372 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا آدم قال ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( إلا أماني ) ، يتمنون على الله ما ليس لهم .

1373 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : ( إلا أماني ) ، قال : تمنوا فقالوا : نحن من أهل الكتاب . وليسوا منهم .

[ ص: 262 ] قال أبو جعفر : وأولى ما روينا في تأويل قوله : ( إلا أماني ) ، بالحق ، وأشبهه بالصواب ، الذي قاله ابن عباس - الذي رواه عنه الضحاك - وقول مجاهد : إن " الأميين " الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية ، أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله على موسى شيئا ، ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقولون الأباطيل كذبا وزورا .

و " التمني " في هذا الموضع ، هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله . يقال منه : " تمنيت كذا " ، إذا افتعلته وتخرصته . ومنه الخبر الذي روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه : " ما تغنيت ولا تمنيت " ، يعني بقوله : " ما تمنيت " ، ما تخرصت الباطل ، ولا اختلقت الكذب والإفك .

والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك - وأنه أولى بتأويل قوله : ( إلا أماني ) من غيره من الأقوال - قول الله جل ثناؤه : ( وإن هم إلا يظنون ) . فأخبر عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ، ظنا منهم لا يقينا . ولو كان معنى ذلك أنهم " يتلونه " ، لم يكونوا ظانين ، وكذلك لو كان معناه : " يشتهونه " . لأن الذي يتلوه ، إذا تدبره علمه . ولا يستحق - الذي يتلو كتابا قرأه ، وإن لم يتدبره بتركه التدبر أن يقال : هو ظان لما يتلو ، إلا أن يكون شاكا في نفس ما يتلوه ، لا يدري أحق هو أم باطل . ولم يكن القوم - الذين كانوا يتلون التوراة على عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود - فيما بلغنا - [ ص: 263 ] شاكين في التوراة أنها من عند الله . وكذلك " المتمني " الذي هو في معنى " المشتهي " غير جائز أن يقال : هو ظان في تمنيه . لأن التمني من المتمني ، إذا تمنى ما قد وجد عينه . فغير جائز أن يقال : هو شاك ، فيما هو به عالم . لأن العلم والشك معنيان ينفي كل واحد منهما صاحبه ، لا يجوز اجتماعهما في حيز واحد . والمتمني في حال تمنيه ، موجود تمنيه ، فغير جائز أن يقال : هو يظن تمنيه .

وإنما قيل : ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ، والأماني من غير نوع " الكتاب " ، كما قال ربنا جل ثناؤه : ( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) [ النساء : 157 ] و " الظن " من " العلم " بمعزل . وكما قال : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) [ الليل : 19 - 20 ] ، وكما قال الشاعر :


ليس بيني وبين قيس عتاب غير طعن الكلى وضرب الرقاب

وكما قال نابغة بني ذبيان :


حلفت يمينا غير ذي مثنوية ،     ولا علم إلا حسن ظن بصاحب

[ ص: 264 ] في نظائر لما ذكرنا يطول بإحصائها الكتاب .

ويخرج ب " إلا " ما بعدها من معنى ما قبلها ومن صفته ، وإن كان كل واحد منهما من غير شكل الآخر ومن غير نوعه . ويسمي ذلك بعض أهل العربية " استثناء منقطعا " ، لانقطاع الكلام الذي يأتي بعد " إلا " عن معنى ما قبلها . وإنما يكون ذلك كذلك ، في كل موضع حسن أن يوضع فيه مكان " إلا " " لكن " ; فيعلم حينئذ انقطاع معنى الثاني عن معنى الأول ، ألا ترى أنك إذا قلت : ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ثم أردت وضع " لكن " مكان " إلا " وحذف " إلا " ، وجدت الكلام صحيحا معناه صحته وفيه " إلا " ؟ وذلك إذا قلت : ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب لكن أماني . يعني : لكنهم يتمنون . وكذلك قوله : ( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) ، لكن اتباع الظن ، بمعنى : لكنهم يتبعون الظن . وكذلك جميع هذا النوع من الكلام على ما وصفنا .

وقد ذكر عن بعض القرأة أنه قرأ : ( إلا أماني ) مخففة . ومن خفف ذلك وجهه إلى نحو جمعهم " المفتاح " " مفاتح " ، و " القرقور " ، " قراقر " ، وأن [ ص: 265 ] ياء الجمع لما حذفت خففت الياء الأصلية - أعني من " الأماني " - كما جمعوا " الأثفية " " أثافي " مخففة ، كما قال زهير بن أبي سلمى :


أثافي سفعا في معرس مرجل     ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلم

وأما من ثقل : ( أماني ) فشدد ياءها ، فإنه وجه ذلك إلى نحو جمعهم " المفتاح مفاتيح ، والقرقور قراقير ، والزنبور زنابير " ، فاجتمعت ياء " فعاليل " ولامها ، وهما جميعا ياآن ، فأدغمت إحداهما في الأخرى ، فصارتا ياء واحدة مشددة .

فأما القراءة التي لا يجوز غيرها عندي لقارئ في ذلك ، فتشديد ياء " الأماني " ، لإجماع القرأة على أنها القراءة التي مضى على القراءة بها السلف - مستفيض ذلك بينهم ، غير مدفوعة صحته - وشذوذ القارئ بتخفيفها عما عليه الحجة مجمعة في ذلك . وكفى دليلا على خطأ قارئ ذلك بتخفيفها ، إجماعها على تخطئته .

التالي السابق


الخدمات العلمية