الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( وترتيب فرائضه )

                                                                                                                            ش : يعني أن السنة الثامنة من سنن الوضوء أن يرتب فرائضه [ ص: 250 ] فيغسل وجهه ثم ذراعيه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه واحترز بقوله فرائضه من الترتيب بين السنن في أنفسها وبينها وبين الفرائض فإن ذلك مستحب كما سيأتي ، والمشهور في المذهب أن الترتيب سنة كما قال المصنف . قال ابن رشد في المقدمات : وهو المعلوم من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك وقيل : واجب حكاه ابن زياد عن مالك وقاله أبو مصعب ومال إليه ابن عبد السلام وعزاه في الذخيرة للشيخ أبي إسحاق .

                                                                                                                            وقيل : واجب مع الذكر وعزاه ابن راشد والمصنف في التوضيح لابن حبيب وقيل : مستحب وعزاه في الذخيرة لابن حبيب وذكره في التوضيح ولم يعزه بل قال : تأول اللخمي المدونة عليه لقوله فيها يعيد الوضوء وذلك أحب إلي وما أدري ما وجوبه . قال سند هو تأويل فاسد . قال : والهاء في وجوبه عائد على الترتيب ويحتمل أن يعود على إعادة الوضوء ، واقتصر ابن يونس على الأول انتهى كلام التوضيح فتحصل في حكمه أربعة أقوال .

                                                                                                                            قال في الذخيرة ووجه المشهور أن الله سبحانه وتعالى عدل عن أحرف الترتيب وهي الفاء وثم إلى الواو التي لا تقتضي إلا مطلق الجمع ، وقول علي رضي الله تعالى عنه : ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت وقول ابن عباس : لا بأس بالبداءة بالرجلين قبل اليدين خرج الأثرين الدارقطني مع صحبة علي رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم طول عمره ، فلولا اطلاعه على عدم الوجوب لما قال ذلك وكذلك ابن عباس انتهى . وحيث انتفى الوجوب قلنا : إنه سنة لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه ووجه ابن رشد القول بالوجوب بأن الله سبحانه وتعالى رتب الأعضاء بعضها على بعض وقال النبي صلى الله عليه وسلم { توضأ كما أمرك الله تعالى } وبأن الوضوء عبادة ذات أجزاء يكره الكلام فيها ، فكان الترتيب واجبا فيها كالصلاة { وبأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتبا } وفعله محمول على الوجوب وبأنه صلى الله عليه وسلم توضأ كذلك ، { وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به } ثم قال : والجواب أن هذه مناسبات تقتضي أن الترتيب مطلوب ونحن نوافق على ذلك ، ووجه القول بأنه واجب مع الذكر أن الترتيب يرجع إلى النهي عن التنكيس والنهي يفترق عمده من نسيانه انتهى . ووجه الاستحباب أنه حيث انتفى الوجوب حمل على الندب إذ هو الأصل في الهيئات كالابتداء بمقدم الرأس وبأول العضو وباليمنى قبل اليسار والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            ص ( فيعاد المنكس وحده إن بعد بجفاف وإلا مع تابعه )

                                                                                                                            ش : يعني أنه إذا قلنا : إن الترتيب سنة فمن نكس أعضاء وضوئه فإنه يعيد المنكس وحده ولا يعيد ما بعده إن بعد عن محل الماء ، وإن لم يبعد أعاد الوضوء المنكس وما بعده .

                                                                                                                            هذا قول ابن القاسم وقال ابن حبيب : يعيد المنكس وما بعده سواء كان بعيدا أو قريبا ، وما ذكره المصنف من إعادة المنكس وما بعده مع القرب هو الذي نص عليه ابن رشد وابن بشير وغيرهما ، قال في التوضيح : وظاهر كلام ابن شاس أنه يعيد الوضوء ، قال : ولفظه إن كان بحضرة الماء فإنه يبتدئ ليسارة الأمر عليه انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) والظاهر ما قاله ابن رشد وابن بشير وعليه اقتصر صاحب الطراز والمصنف والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            ( فرع ) من نكس بعض عضو فحكم ذلك البعض حكم المنكس قال ابن يونس فيمن غسل يديه أول وضوئه ثم لم يعد غسل كفيه بعد غسل وجهه : إن كان قصد بغسل يديه أولا السنة فلا يجزئه وليعد ما صلى بذلك ، فإن قصد بذلك الفرض فتجزئه صلاته إلا أنه يصير كمن نكس وضوءه . قاله أبو بكر بن عبد الرحمن وأبو محمد بعد أن قال يجزئه انتهى . كأنه يعني والله أعلم أن أبا محمد قال أولا : لا يجزئه ولم يفصل بين أن يكون قصد به أولا السنة أم لا والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            ( تنبيهات الأول ) هذا حكم من ترك الترتيب ناسيا فأما من نكس وضوءه عامدا فحكى ابن الحاجب فيه قولين ، قال في التوضيح : [ ص: 251 ] قال ابن شاس : أحدهما أنه يعيد مع العمد قريبا كان أو بعيدا .

                                                                                                                            ( والثاني ) أنه كالناسي فلا يعيد وهما على الخلاف في تارك السنن متعمدا هل يجب عليه إعادة الصلاة أم لا ؟ انتهى . وقال ابن راشد : إذا ترك السنة عمدا في الصلاة ففي الإعادة قولان وكذا هنا والخلاف هنا أضعف ; لأن سنن الصلاة أقوى والقول بالصحة في الموضعين أصح ; لأن السنة لا يذم تاركها انتهى . وقال في المقدمات : إذا قلنا أنه سنة فإن كان بحضرة الوضوء أخر ما قدم ثم غسل ما بعده ناسيا كان أو عامدا ، وإن كان قد تباعد وجف وضوءه ، وإن كان متعمدا ففي ذلك ثلاثة أقوال : أحدها أنه يعيد الوضوء والصلاة ، والثاني أنه يعيد الوضوء ولا يعيد الصلاة قاله ابن حبيب ، والثالث أنه لا إعادة عليه للوضوء ولا للصلاة ، وهو قول مالك في المدونة لا أدري ما وجوبه انتهى . ثم ذكر حكم النسيان .

                                                                                                                            ( قلت ) وحكى ابن عرفة عن ابن زرقون أنه عزا للمدونة أنه يعيد الوضوء استحبابا والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            ( الثاني ) تقدم أن إعادة ما بعد المنكس في القرب مسنونة لأجل تحصيل الترتيب خلافا لابن ناجي والجزولي والشيخ يوسف بن عمر في قولهم : إنها مستحبة والله تعالى أعلم ، وكلام ابن بشير وابن الحاجب يدل على ذلك .

                                                                                                                            ( الثالث ) جعل ابن رشد الجفاف حدا للبعد في العمد والنسيان وقد تقدم في الموالاة أن التفريق عمدا لا يجدد بالجفاف بل دون ذلك وينبغي أن يقال هنا كذلك أيضا فتأمله .

                                                                                                                            ( الرابع ) المنكس هو المقدم عن موضعه المشروع له ، فلو بدأ فغسل ذراعيه ثم غسل وجهه ثم مسح ثم غسل رجليه فعند ابن القاسم يؤخر ما قدمه وهو غسل ذراعيه ولا يعيد ما بعده ، وعن ابن حبيب يغسل ذراعيه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه ، فإن غسل وجهه ثم مسح رأسه ثم غسل ذراعيه ورجليه أعاد عند ابن القاسم رأسه فقط ، وعند ابن حبيب يعيد رأسه ورجليه ، فلو غسل رجليه في هذه الصورة قبل غسل ذراعيه فيتفق ابن القاسم وغيره على أنه يعيد مسح رأسه ورجليه ، فلو بدأ في الإعادة في هذه الصورة ، فغسل رجليه قبل مسح رأسه فيمسح رأسه ولا يعيد غسل رجليه عند ابن القاسم ; لأن إعادة غسل رجليه إنما كانت لوقوع ذلك قبل غسل ذراعيه ، فإذا أعاده فقد وقع بعد غسل الذراعين وبعد مسح الرأس في الطهارة الأولى ويعيد الآن مسح رأسه ليقع مسح رأسه بعد غسل الذراعين ، وعند ابن حبيب إذا مسح رأسه أعاد غسل رجليه قاله في الطراز ، ولو غسل وجهه ثم رجليه ثم مسح رأسه وغسل ذراعيه فيتفق على أنه يمسح رأسه ويغسل رجليه ، وقد ذكر صاحب الطراز من هذا صورا كثيرة مرجعها إلى ما ذكرناه .

                                                                                                                            ( الخامس ) استشكل ابن رشد في المقدمات والتونسي قول ابن القاسم ; لأنه لا يتخلص بما يأتي من التنكيس كما تقدم فمن بدأ بغسل ذراعيه أو بمسح رأسه قبل غسل وجهه فإنه يعيد ما قدمه فقط وهو غسل الذراعين أو مسح الرأس ، وإذا فعل ذلك فقد وقع غسل ذراعيه بعد مسح رأسه وغسل رجليه في الصورة الأولى ، ووقع مسح رأسه بعد غسل رجليه في الصورة الثانية . قال في المقدمات : والجاري على أصل ابن القاسم في تفرقة الوضوء ناسيا أن لا شيء عليه في تنكيسه ناسيا إذا فرق وضوءه . قال : ووجه قوله أن ما قدمه فوضعه في غير موضعه يصير بمنزلة ما نسيه فذكره بعد البعد فيفعله وحده ولا يعيد ما بعده لكن يلزمه على هذا إذا نكس وضوءه إعادة الوضوء والصلاة وهو خلاف ما في المدونة انتهى . بالمعنى ونقله في التوضيح بلفظه واعترض بأنه لو جعله كالمنسي للزم أن يعيد الوضوء في العمد ولم يقل به انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) قد يقال : لا يلزم ذلك ; لأن المنكس مشبه بالمنسي ولا يلزم أن يتنزل منزلته من كل الوجوه فتأمله . وذكر في التوضيح جوابا ثانيا عن الاستشكال المذكور وهو أن إعادة المقدم إنما هي لحصول الترتيب بينه وبين ما قدم عليه بإعادة الذراعين في الصورة الأولى إنما هي ليحصل [ ص: 252 ] الترتيب بين الذراعين والوجه ; لأن التنكيس إنما وقع بينهما لا بين الذراعين ومسح الرأس لحصول ذلك أولا ، وعزا ابن عرفة هذا الجواب لبعض الأندلسيين . قال : ورده المازري بأنه يلزم مثل ذلك في القرب وذكر الاعتراض في التوضيح عن ابن هارون ولم يعزه .

                                                                                                                            ( قلت ) قد يقال : إنه لا يلزم ما ذكره المازري ; لأنه إنما أمر بإعادة المنكس وما بعده بحضرة الماء ليأتي بالوضوء على الوجه الأكمل من مراعاة الموالاة والترتيب ، فيخرج بذلك من الخلاف ، ومع البعد لا بد من دخول الخلاف فيه لحصول الخلل في الموالاة والترتيب فتأمله والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            ( السادس ) استشكل ابن رشد في المقدمات أيضا قول ابن حبيب يعيد المنكس وما بعده وقال فيه نظر ; لأنه إذا فعل ذلك ولم يعد الوضوء من أوله قد حصل وضوءه مفرقا ، ومن قول ابن حبيب : أن من فرق وضوءه ناسيا ومتعمدا أعاد الوضوء والصلاة في الوقت وبعده انتهى . وذكره ابن عرفة وقال بعده : ويجاب بحصول الموالاة أولا انتهى . فتأمله .

                                                                                                                            ( السابع ) إذا قلنا : إن الترتيب واجب فنكس وضوءه فحكى في التوضيح عن الجواهر أنه اختلف فيه هل يبتدئ الوضوء أم لا ؟

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية