الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين الفاء فصيحة لأنها تفصح عن كلام مقدر دل عليه قوله فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه . فالتقدير : يسبح ربه في بطن الحوت أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فاستجاب الله له ونجاه ، كما في سورة الأنبياء . والمعنى : فلفظه الحوت وقاءه ، وحمله الموج إلى الشاطئ .

والنبذ : الإلقاء ، وأسند نبذه إلى الله لأن الله هو الذي سخر الحوت لقذفه من بطنه إلى شاطئ لا شجر فيه .

والعراء : الأرض التي لا شجر فيها ولا ما يغطيها .

وكان يونس قد خرج من بطن الحوت سقيما لأن أمعاء الحوت أضرت بجلده بحركتها حوله ، فإنه كان قد نزع ثيابه عندما أريد رميه في البحر ليخف للسباحة ، ولعل الله أصاب الحوت بشبه الإغماء فتعطلت حركة هضمه تعطيلا ما فبقي كالخدر لئلا تضر أمعاؤه لحم يونس .

وأنبت الله شجرة من يقطين لتظلله وتستره . واليقطين : الدباء وهي كثيرة الورق تتسلق أغصانها في الشيء المرتفع ، فالظاهر أن أغصان اليقطينة تسلقت على جسد يونس فكسته وأظلته . واختير له اليقطين ليمكن له أن يقتات من غلته [ ص: 178 ] فيصلح جسده لطفا من ربه به بعد أن أجرى له حادثا لتأديبه ، شأن الرب مع عبيده أن يعقب الشدة باليسر .

وهذا حدث لم يعهد مثيله من الرسل ، ولأجله قال النبيء صلى الله عليه وسلم : ما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى ، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ، إذ لا يحتمل أن يكون أراد أحدا آخر إذ لا يخطر بالبال أن يقوله أحد غير الأنبياء .

والمعنى نفي الأخيرية في وصف النبوءة ، أي لا يظنن أحد أن فعلة يونس تسلب عنه النبوءة .

فذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم : لا تفضلوا بين الأنبياء ، أي في أصل النبوءة لا في درجاتها فقد قال الله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وقال : " ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض " .

واعلم أن الغرض من ذكر يونس هنا تسلية النبيء صلى الله عليه وسلم فيما يلقاه من ثقل الرسالة ، بأن ذلك قد أثقل الرسل من قبله فظهرت مرتبة النبيء صلى الله عليه وسلم في صبره على ذلك وعدم تذمره وإعلام جميع الناس بأنه مأمور من الله تعالى بمداومة الدعوة للدين ؛ لأن المشركين كانوا يلومونه على إلحاحه عليهم ودعوته إياهم في مختلف الأزمان والأحوال ويقولون : لا تغشنا في مجالسنا ، فمن جاءك منا فاسمعه ، كما قال عبد الله بن أبي ، قال تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته . فلذكر قصة يونس أثر من موعظة التحذير من الوقوع فيما وقع فيه من غضب ربه ، ألا ترى إلى قوله تعالى فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم .

وليعلم الناس أن الله إذا اصطفى أحدا للرسالة لا يرخص له في الفتور عنها ولا ينسخ أمره بذلك لأن الله أعلم حيث يجعل رسالاته .

التالي السابق


الخدمات العلمية