الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال صاحب " المنازل " :

الشكر : اسم لمعرفة النعمة . لأنها السبيل إلى معرفة المنعم . ولهذا سمى الله تعالى الإسلام والإيمان في القرآن : شكرا .

فمعرفة النعمة : ركن من أركان الشكر . لا أنها جملة الشكر ، كما تقدم : أنه الاعتراف بها ، والثناء عليه بها ، والخضوع له ومحبته ، والعمل بما يرضيه فيها . لكن لما كان معرفتها ركن الشكر الأعظم ، الذي يستحيل وجود الشكر بدونه : جعل أحدهما اسما للآخر .

قوله : لأنه السبيل إلى معرفة المنعم .

يعني أنه إذا عرف النعمة توصل بمعرفتها إلى معرفة المنعم بها .

وهذا من جهة معرفة كونها نعمة ، لا من أي جهة عرفها بها . ومتى عرف المنعم أحبه . وجد في طلبه . فإن من عرف الله أحبه لا محالة . ومن عرف الدنيا أبغضها لا محالة .

[ ص: 238 ] وعلى هذا : يكون قوله : الشكر اسم لمعرفة النعمة . مستلزما لمعرفة المنعم . ومعرفته تستلزم محبته . ومحبته تستلزم شكره .

فيكون قد ذكر بعض أقسام الشكر باللفظ . ونبه على سائرها باللزوم . وهذا من أحسن اختصاره . وكمال معرفته وتصوره ، قدس الله روحه .

قال : ومعاني الشكر ثلاثة أشياء : معرفة النعمة . ثم قبول النعمة . ثم الثناء بها . وهو أيضا من سبل العامة .

أما معرفتها : فهو إحضارها في الذهن ، ومشاهدتها وتمييزها .

فمعرفتها : تحصيلها ذهنا ، كما حصلت له خارجا . إذ كثير من الناس تحسن إليه وهو لا يدري . فلا يصح من هذا الشكر .

قوله : ثم قبول النعمة .

قبولها : هو تلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة إليها . وأن وصولها إليه بغير استحقاق منه ، ولا بذل ثمن . بل يرى نفسه فيها كالطفيلي . فإن هذا شاهد بقبولها حقيقة .

قوله : ثم الثناء بها .

الثناء على المنعم ، المتعلق بالنعمة نوعان : عام ، وخاص . فالعام : وصفه بالجود والكرم ، والبر والإحسان ، وسعة العطاء ، ونحو ذلك .

والخاص : التحدث بنعمته ، والإخبار بوصولها إليه من جهته . كما قال تعالى وأما بنعمة ربك فحدث .

وفي هذا التحديث المأمور به قولان .

أحدهما : أنه ذكر النعمة ، والإخبار بها . وقوله : أنعم الله علي بكذا وكذا . قال مقاتل : يعني اشكر ما ذكر من النعم عليك في هذه السورة : من جبر اليتم ، والهدى بعد الضلال ، والإغناء بعد العيلة .

والتحدث بنعمة الله شكر . كما في حديث جابر مرفوعا من صنع إليه معروف فليجز [ ص: 239 ] به . فإن لم يجد ما يجزي به فليثن . فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره . وإن كتمه فقد كفره ، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور .

فذكر أقسام الخلق الثلاثة : شاكر النعمة المثني بها ، والجاحد لها والكاتم لها . والمظهر أنه من أهلها ، وليس من أهلها . فهو متحل بما لم يعطه .

وفي أثر آخر مرفوع : من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير . ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله . والتحدث بنعمة الله شكر . وتركه كفر . والجماعة رحمة والفرقة عذاب .

والقول الثاني : أن التحدث بالنعمة المأمور به في هذه الآية : هو الدعوة إلى الله ، وتبليغ رسالته ، وتعليم الأمة . قال مجاهد : هي النبوة . قال الزجاج : أي بلغ ما أرسلت به ، وحدث بالنبوة التي آتاك الله . وقال الكلبي : هو القرآن . أمره أن يقرأه .

والصواب : أنه يعم النوعين . إذ كل منهما نعمة مأمور بشكرها والتحدث بها . وإظهارها من شكرها .

قوله : وهو أيضا من سبل العامة .

يا ليت الشيخ صان كتابه عن هذا التعليل . إذ جعل نصف الإسلام والإيمان من أضعف السبل .

بل الشكر سبيل رسل الله وأنبيائه - صلى الله عليهم وسلم أجمعين - أخص خلقه ، وأقربهم إليه .

ويا عجبا ! أي مقام أرفع من الشكر الذي يندرج فيه جميع مقامات الإيمان ، حتى المحبة والرضا ، والتوكل وغيرها ؟ فإن الشكر لا يصح إلا بعد حصولها . وتالله ليس لخواص أولياء الله ، وأهل القرب منه سبيل أرفع من الشكر ولا أعلى . لأن الشكر عندهم يتضمن نوع دعوى . وأنه شكر الحق على إنعامه . ففي الشاكر بقية من بقايا رسمه . لم يتخلص عنها ، ويفرغ منها . فلو فني عنها - بتحققه أن الحق سبحانه هو الذي شكر نفسه [ ص: 240 ] بنفسه ، وأن من لم يكن كيف يشكر من لم يزل - علم أن الشكر من منازل العامة . ولو أن السلطان كسا عبدا من عبيده ثوبا من ثيابه . فأخذ يشكر السلطان على ذلك : لعد مخطئا ، مسيئا للأدب . فإنه مدع بذلك مكافأة السلطان بشكره . فإن الشكر مكافأة . والعبد أصغر قدرا من المكافأة . والشهود للحقيقة يقتضي اتحاد نسبة الأخذ والعطاء ، ورجوعها إلى وصف المعطي وقوته . فالخاصة يسقط عندهم الشكر بالشهود ، وفي حقهم ما هو أعلى منه .

هذا غاية تقرير كلامهم . وكسوته أحسن عبارة . لئلا يتعدى عليهم بسوء التعبير الموجب للتنفير .

ونحن معنا العصمة النافعة : أن كل أحد - غير المعصوم صلى الله عليه وسلم - فمأخوذ من قوله ومتروك . وكل سبيل لا يوافق سبيله فمهجور غير مسلوك .

فأما تضمن الشكر لنوع دعوى . فإن أريد بهذه الدعوى إضافة العبد الفعل إلى نفسه ، وأنه كان به وغاب بذلك عن كونه بحول الله وقوته ومنته على عبده : فلعمر الله هذه علة مؤثرة . ودعوى باطلة كاذبة .

وإن أريد : أن شهوده لشكره شهوده لنعمة الله عليه به ، وتوفيقه له فيه ، وإذنه له به ، ومشيئته عليه ومنته . فشهد عبوديته وقيامه بها ، وكونها بالله . فأي دعوى في هذا ؟ وأي علة ؟ .

نعم غايته : أنه لا يجامع الفناء . ولا يخوض تياره . فكان ماذا ؟ .

فأنتم جعلتم الفناء غاية . فأوجب لكم ما أوجب . وقدمتموه على ما قدمه الله ورسوله . فتضمن ذلك تقديم ما أخر ، وتأخير ما قدم . وإلغاء ما اعتبر ، واعتبار ما ألغي .

ولولا منة الله على الصادقين منكم بتحكيم الرسالة ، والتقيد بالشرع لكان أمرا غير هذا . كما جرى لغير واحد من السالكين على هذه الطريق الخطرة . فلا إله إلا الله . كم فيها من قتيل وسليب ، وجريح وأسير وطريد ؟ .

وأما قولكم : إن الشاكر فيه بقية من بقايا رسمه .

فيقال : إذا كانت هذه البقية محض العبودية ومركبها ، والحاملة لها : فأي نقص في هذا ؟ فإن العبودية لا تقوم بنفسها . وإنما تقوم بهذا الرسم . فلا نقص في حمل العبودية عليه ، والسير به إلى الله عز وجل .

[ ص: 241 ] نعم ، النقص كل النقص : في حمل النفس والشهوة والحظ المخالف لمراد الرب تعالى الديني على هذا الرسم ، والسير به إلى النفس . ولعل العامل على الفناء بهذه المثابة . وهو ملبوس عليه . فالعارف يستقصي التفتيش عن كمائن النفس .

وأما قولكم : من لم يكن كيف يشكر من لم يزل ؟ فهذا بالشطح أليق منه بالمعرفة . فإن من لم يزل إذا أمر من لم يكن بالشكر ، ورضيه منه وأحبه وأثنى عليه به ، واستدعاه واقتضاه منه ، وأوجب له به المزيد ، وأضافه إليه ، واشتق منه له الاسم ، وأوقع عليه به الحكم ، وأخبر أنه غاية رضاه منه . وأمره - مع ذلك - أن يشهد أن شكره به ، وبإذنه ومشيئته وتوفيقه : فهذا شكر من لم يكن لمن يزل . وهو محض العبودية .

وأما ضربكم مثل كسوة السلطان لعبده ، وأخذه في الشكر له مكافأة : فهذا من أبطل الأمثلة عقلا ونقلا وفطرة . وهو الحجاب الذي أوجب لمن قال : إن شكر المنعم لا يجب عقلا ، ما قال ذلك . حتى زعم أن شكره قبيح عقلا . ولولا الشرع لما حسن الإقدام عليه . وضرب هذا المثل الذي ضربتموه بعينه . وهذا من القياس الفاسد ، المتضمن قياس الخالق على المخلوق ، وبمثله عبدت الشمس والقمر والأوثان ، إذ قال المشركون : جناب العظيم لا يهجم عليه بغير وسائل ووسائط . وسرت هاتان الرقيقتان فيمن فسد من أهل التعبد وأهل النظر والبحث . والمعصوم من عصمه الله .

فيقال : الفرق من وجوه كثيرة جدا . تفوت الحصر .

منها : أن الملك محتاج فقير إلى من أنعم عليه ، لا يقوم ملكه إلا به . فهو محتاج إلى معاوضة بتلك الكسوة - مثلا - خدمة له ، وحفظا له ، وذبا عنه ، وسعيا في تحصيل مصالحه . فكسوته له من باب المعاوضة والمعاونة . فإذا أخذ في شكره . فكأنه جعل ذلك ثمنا لنعمته . وليس بثمن لها .

وأما إنعام الرب تعالى على عبده : فإحسان إليه ، وتفضل عليه ، ومجرد امتنان . لا لحاجة منه إليه ، ولا لمعاوضة ، ولا لاستعانة به ، ولا ليتكثر به من قلة ، ولا ليتعزز به من ذلة ، ولا ليقوى به من ضعف . سبحانه وبحمده .

وأمره له بالشكر أيضا : إنعام آخر عليه . وإحسان منه إليه . إذ منفعة الشكر ترجع إلى العبد دنيا وآخرة . لا إلى الله . والعبد هو الذي ينتفع بشكره . كما قال تعالى : [ ص: 242 ] ومن شكر فإنما يشكر لنفسه فشكر العبد إحسان منه إلى نفسه دنيا وأخرى . فلا يذم ما أتى به من ذلك ، وإن كان لا يحسن مقابلة المنعم به . ولا يستطيع شكره . فإنه إنما هو محسن إلى نفسه بالشكر . لا أنه مكافئ به لنعم الرب . فالرب تعالى لا يستطيع أحد أن يكافئ نعمه أبدا ، ولا أقلها ، ولا أدنى نعمة من نعمه . فإنه تعالى هو المنعم المتفضل ، الخالق للشكر والشاكر ، وما يشكر عليه . فلا يستطيع أحد أن يحصي ثناء عليه . فإنه هو المحسن إلى عبده بنعمه ، وأحسن إليه بأن أوزعه شكرها . فشكره نعمة من الله أنعم بها عليه . تحتاج إلى شكر آخر . وهلم جرا .

ومن تمام نعمته سبحانه ، وعظيم بره وكرمه وجوده : محبته له على هذا الشكر . ورضاه منه به . وثناؤه عليه به ، ومنفعته وفائدته مختصة بالعبد . لا تعود منفعته على الله . وهذا غاية الكرم الذي لا كرم فوقه . ينعم عليك ثم يوزعك شكر النعمة ، ويرضى عنك . ثم يعيد إليك منفعة شكرك . ويجعله سببا لتوالي نعمه واتصاله إليك ، والزيادة على ذلك منها .

وهذا الوجه وحده يكفي اللبيب ليتنبه به على ما بعده .

وأما كون الشهود يسقط الشكر : فلعمر الله ، إنه إسقاط لحق المشكور بحظ الشاهد . نعم بحظ عظيم متعلق بالحق عز وجل ، لا حظ سفلي ، متعلق بالكائنات ولكن صاحبه قد سار من حرم إلى حرم .

وكان يقع لي هذا القدر منذ أزمان . ولا أتجرأ على التصريح به . لأن أصحابه يرون من ذكرهم به بعين الفرق الأول . فلا يصغون إليه ألبتة ، لا سيما وقد ذاقوا حلاوته ولذته . ورأوا تخبيط أهل الفرق الأول ، وتلوثهم بنفوسهم وعوالمها . وانضاف إلى ذلك : أن جعلوه غاية ، فتركب من هذه الأمور ما تركب . وإذا لاحت الحقائق فليقل القائل ما شاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية