الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        1641 حدثنا عياش بن الوليد حدثنا محمد بن فضيل حدثنا عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر للمحلقين قالوا وللمقصرين قال اللهم اغفر للمحلقين قالوا وللمقصرين قالها ثلاثا قال وللمقصرين

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا عياش بن الوليد ) هو الرقام بالتحتانية والمعجمة ، ووقع في رواية ابن السكن بالموحدة والمهملة ، وقال أبو علي الجياني : الأول أرجح بل هو الصواب ، وكان القابسي يشك عن أبي زيد فيه فيهمل ضبطه فيقول : عباس أو عياش . قلت : لم يخرج البخاري ، للعباس - بالموحدة والمهملة - ابن الوليد إلا ثلاثة أحاديث نسبه في كل منهما " النرسي " أحدها في علامات النبوة والآخر في المغازي والثالث في الفتن ذكره معلقا قال " وقال عباس النرسي " ، وأما الذي بالتحتانية والمعجمة فأكثر عنه وفي الغالب لا ينسبه ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قالها ثلاثا ) أي قوله " اللهم اغفر للمحلقين " وهذه الرواية شاهدة لأن عبيد الله العمري حفظ الزيادة .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : لم أر في حديث أبي هريرة من طريق أبي زرعة بن عمرو بن جرير عنه إلا من رواية محمد بن فضيل هذه بهذا الإسناد في جميع ما وقفت عليه من السنن والمسانيد ، فهي من أفراده عن عمارة ومن أفراد عمارة ، عن أبي زرعة ، وتابع أبا زرعة عليه عبد الرحمن بن يعقوب أخرجه مسلم من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ولم يسق لفظه ، وساقه أبو عوانة ، ورواية أبي زرعة أتم . واختلف المتكلمون على هذا الحديث في الوقت الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، فقال ابن عبد البر : لم يذكر أحد من رواة نافع ، عن ابن عمر أن ذلك كان يوم الحديبية ، وهو تقصير وحذف ، وإنما جرى ذلك يوم الحديبية حين صد عن البيت ، وهذا محفوظ مشهور من حديث ابن عمر ، وابن عباس ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة ، وحبشي بن جنادة وغيرهم . ثم أخرج حديث أبي سعيد بلفظ : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأهل الحديبية للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة . وحديث ابن عباس بلفظ : حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رحم الله المحلقين . الحديث ، وحديث أبي هريرة من طريق محمد بن فضيل الماضي ولم يسق لفظه بل قال " فذكر معناه " وتجوز في ذلك فإنه ليس في رواية أبي هريرة تعيين الموضع ولم يقع في شيء من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع لأنه شهدها ولم يشهد الحديبية ، ولم يسق ابن عبد البر ، عن ابن عمر في هذا شيئا ، ولم أقف على تعيين الحديبية في شيء من الطرق عنه ، وقد قدمت في صدر الباب أنه مخرج من مجموع الأحاديث عنه أن ذلك كان في حجة الوداع كما يومئ إليه صنيع البخاري ، وحديث أبي سعيد الذي أخرجه ابن عبد البر أخرجه أيضا الطحاوي من طريق الأوزاعي ، وأحمد ، وابن أبي شيبة ، وأبو داود الطيالسي من طريق هشام الدستوائي كلاهما عن يحيى بن أبي كثير ، عن إبراهيم الأنصاري ، عن أبي سعيد ، وزاد فيه أبو داود أن الصحابة حلقوا يوم الحديبية إلا عثمان ، وأبا قتادة ، وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجه من طريق ابن إسحاق " حدثني ابن أبي نجيح ، عن مجاهد عنه " وهو عند ابن إسحاق [ ص: 659 ] في المغازي بهذا الإسناد وأن ذلك كان بالحديبية ، وكذلك أخرجه أحمد وغيره من طريقه ، وأما حديث حبشي بن جنادة فأخرجه ابن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق عنه ولم يعين المكان ، وأخرجه أحمد من هذا الوجه وزاد في سياقه " عن حبشي وكان ممن شهد حجة الوداع " فذكر هذا الحديث ، وهذا يشعر بأنه كان في حجة الوداع . وأما قول ابن عبد البر " فوهم " فقد ورد تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبي قرة في : " السنن " ومن طريق الطبراني في : " الأوسط " ومن حديث المسور بن مخرمة عند ابن إسحاق في : " المغازي " وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم السلولي عند أحمد ، وابن أبي شيبة ، ومن حديث أم الحصين عند مسلم ، ومن حديث قارب بن الأسود الثقفي عند أحمد ، وابن أبي شيبة ، ومن حديث أم عمارة عند الحارث ، فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا وأصح إسنادا ولهذا قال النووي عقب أحاديث ابن عمر ، وأبي هريرة وأم الحصين : هذه الأحاديث تدل على أن هذه الواقعة كانت في حجة الوداع ، قال : وهو الصحيح المشهور . وقيل : كان في الحديبية ، وجزم بأن ذلك كان في الحديبية إمام الحرمين في : " النهاية " ثم قال النووي : لا يبعد أن يكون وقع في الموضعين . انتهى . وقال عياض : كان في الموضعين . ولذا قال ابن دقيق العيد أنه الأقرب . قلت : بل هو المتعين لتظاهر الروايات بذلك في الموضعين كما قدمناه ، إلا أن السبب في الموضعين مختلف ، فالذي في الحديبية كان بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم وصالح قريشا على أن يرجع من العام المقبل ، والقصة مشهورة كما ستأتي في مكانها .

                                                                                                                                                                                                        فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإحلال توقفوا ، فأشارت أم سلمة أن يحل هو صلى الله عليه وسلم قبلهم ففعل ، فتبعوه فحلق بعضهم وقصر بعض ، وكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير .

                                                                                                                                                                                                        وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس المشار إليه قبل فإن في آخره عند ابن ماجه وغيره أنهم : قالوا يا رسول الله ، ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرحمة ؟ قال : لأنهم لم يشكوا . وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع فقال ابن الأثير في : " النهاية " : كان أكثر من حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسق الهدي ، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة ثم يتحللوا منها ويحلقوا رؤوسهم شق عليهم ، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير في أنفسهم أخف من الحلق ففعله أكثرهم ، فرجح النبي صلى الله عليه وسلم فعل من حلق لكونه أبين في امتثال الأمر . انتهى . وفيما قاله نظر وإن تابعه عليه غير واحد ، لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا ، وقد كان ذلك في حقهم كذلك . والأولى ما قاله الخطابي وغيره : إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعر والتزين به ، وكان الحلق فيهم قليلا وربما كانوا يرونه من الشهرة ومن زي الأعاجم ، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير .

                                                                                                                                                                                                        وفي حديث الباب من الفوائد أن التقصير يجزئ عن الحلق ، وهو مجمع عليه إلا ما روي عن الحسن البصري أن الحلق يتعين في أول حجة ، حكاه ابن المنذر بصيغة التمريض ، وقد ثبت عن الحسن خلافه . قال ابن أبي شيبة : حدثنا عبد الأعلى ، عن هشام عن الحسن في الذي لم يحج قط ، فإن شاء حلق وإن شاء قصر . نعم روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال : إذا حج الرجل أول حجة حلق ، فإن حج أخرى فإن شاء حلق وإن شاء قصر . ثم روي عنه أنه قال : كانوا يحبون أن يحلقوا في أول حجة وأول عمرة . انتهى . وهذا يدل على أن ذلك للاستحباب لا للزوم . نعم [ ص: 660 ] عند المالكية والحنابلة أن محل تعيين الحلق والتقصير أن لا يكون المحرم لبد شعره أو ضفره أو عقصه ، وهو قول الثوري ، والشافعي في القديم والجمهور ، وقال في الجديد وفاقا للحنفية : لا يتعين إلا إن نذره أو كان شعره خفيفا لا يمكن تقصيره أو لم يكن له شعر فيمر الموسى على رأسه . وأغرب الخطابي فاستدل بهذا الحديث لتعين الحلق لمن لبد ، ولا حجة فيه ، وفيه أن الحلق أفضل من التقصير ، ووجهه أنه أبلغ في العبادة وأبين للخضوع والذلة وأدل على صدق النية ، والذي يقصر يبقي على نفسه شيئا مما يتزين به ، بخلاف الحالق فإنه يشعر بأنه ترك ذلك لله تعالى . وفيه إشارة إلى التجرد ، ومن ثم استحب الصلحاء إلقاء الشعور عند التوبة ، والله أعلم . وأما قول النووي تبعا لغيره في تعليل ذلك بأن المقصر يبقي على نفسه الشعر الذي هو زينة والحاج مأمور بترك الزينة بل هو أشعث أغبر ففيه نظر ، لأن الحلق إنما يقع بعد انقضاء زمن الأمر بالتقشف فإنه يحل له عقبه كل شيء إلا النساء في الحج خاصة . واستدل بقوله " المحلقين " على مشروعية حلق جميع الرأس لأنه الذي تقتضيه الصيغة ، وقال بوجوب حلق جميعه مالك ، وأحمد ، واستحبه الكوفيون والشافعي ، ويجزئ البعض عندهم ، واختلفوا فيه فعن الحنفية الربع ، إلا أبا يوسف فقال النصف ، وقال الشافعي : أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات ، وفي وجه لبعض أصحابه شعرة واحدة ، والتقصير كالحلق فالأفضل أن يقصر من جميع شعر رأسه ، ويستحب أن لا ينقص عن قدر الأنملة ، وإن اقتصر على دونها أجزأ ، هذا للشافعية وهو مرتب عند غيرهم على الحلق ، وهذا كله في حق الرجال وأما النساء فالمشروع في حقهن التقصير بالإجماع ، وفيه حديث لابن عباس عند أبي داود ولفظه : ليس على النساء حلق ، وإنما على النساء التقصير . وللترمذي من حديث علي " نهى أن تحلق المرأة رأسها " وقال جمهور الشافعية : لو حلقت أجزأها ويكره ، وقال القاضيان أبو الطيب ، وحسين : لا يجوز ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        وفي الحديث أيضا مشروعية الدعاء لمن فعل ما شرع له ، وتكرار الدعاء لمن فعل الراجح من الأمرين المخير فيهما والتنبيه بالتكرار على الرجحان وطلب الدعاء لمن فعل الجائز وإن كان مرجوحا .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية