الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في كلمات في حقيقة الصدق

قال عبد الواحد بن زيد : الصدق : الوفاء لله بالعمل .

وقيل : موافقة السر النطق .

وقيل : استواء السر والعلانية . يعني أن الكاذب علانيته خير من سريرته . كالمنافق الذي ظاهره خير من باطنه .

وقيل : الصدق : القول بالحق في مواطن الهلكة .

وقيل : كلمة الحق عند من تخافه وترجوه .

وقال الجنيد : الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة . والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة .

وهذا الكلام يحتاج إلى شرح . وقد يسبق إلى الذهن خلافه ، وأن الكاذب متلون . لأن الكذب ألوان ، فهو يتلون بتلونه . والصادق مستمر على حالة واحدة . فإن الصدق واحد في نفسه ، وصاحبه لا يتلون ولا يتغير .

لكن مراد الشيخ أبي القاسم صحيح غير هذا . فإن المعارضات والواردات التي ترد على الصادق لا ترد على الكاذب المرائي . بل هو فارغ منها . فإنه لا يرد عليه من قبل الحق موارد الصادقين على الكاذبين المرائين . ولا يعارضهم الشيطان . كما يعارض الصادقين . فإنه لا أرب له في خربة لا شيء فيها . وهذه الواردات توجب تقلب الصادق بحسب اختلافها وتنوعها . فلا تراه إلا هاربا من مكان إلى مكان ومن عمل إلى عمل . ومن حال إلى حال . ومن سبب إلى سبب . لأنه يخاف في كل حال يطمئن إليها . ومكان [ ص: 263 ] وسبب : أن يقطعه عن مطلوبه . فهو لا يساكن حالة ولا شيئا دون مطلوبه . فهو كالجوال في الآفاق في طلب الغنى الذي يفوق به الأغنياء . والأحوال والأسباب تتقلب به ، وتقيمه وتقعده ، وتحركه وتسكنه ، حتى يجد فيها ما يعينه على مطلوبه . وهذا عزيز فيها . فقلبه في تقلب ، وحركة شديدة بحسب سعة مطلوبه . وعظمته وهمته أعلى من أن يقف دون مطلبه على رسم أو حال ، أو يساكن شيئا غيره . فهو كالمحب الصادق ، الذي همته التفتيش على محبوبه . وكذا حال الصادق في طلب العلم ، وحال الصادق في طلب الدنيا . فكل صادق في طلب شيء لا يستقر له قرار . ولا يدوم على حالة واحدة .

وأيضا : فإن الصادق مطلوبه رضا ربه ، وتنفيذ أوامره ، وتتبع محابه . فهو متقلب فيها يسير معها أين توجهت ركائبها . ويستقل معها أين استقلت مضاربها فبينا هو في صلاة إذ رأيته في ذكر ثم في غزو ، ثم في حج . ثم في إحسان للخلق بالتعليم وغيره ، من أنواع النفع . ثم في أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر . أو في قيام بسبب في عمارة الدين والدنيا ، ثم في عيادة مريض ، أو تشييع جنازة . أو نصر مظلوم - إن أمكن - إلى غير ذلك من أنواع القرب والمنافع .

فهو في تفرق دائم لله ، وجمعية على الله . لا يملكه رسم ولا عادة ولا وضع . ولا يتقيد بقيد ولا إشارة . ولا بمكان معين يصلي فيه لا يصلي في غيره . وزي معين لا يلبس سواه . وعبادة معينة لا يلتفت إلى غيرها ، مع فضل غيرها عليها ، أو هي أعلى من غيرها في الدرجة . وبعد ما بينهما كبعد ما بين السماء والأرض .

فإن البلاء والآفات والرياء والتصنع ، وعبادة النفس ، وإيثار مرادها ، والإشارة إليها : كلها في هذه الأوضاع ، والرسوم والقيود ، التي حبست أربابها عن السير إلى قلوبهم . فضلا عن السير من قلوبهم إلى الله تعالى . فإذا خرج أحدهم عن رسمه ووضعه وزيه وقيده وإشارته - ولو إلى أفضل منه - استهجن ذلك . ورآه نقصا ، وسقوطا من أعين الناس ، وانحطاطا لرتبته عندهم . وهو قد انحط وسقط من عين الله .

وقد يحس أحدهم ذلك من نفسه وحاله . ولا تدعه رسومه وأوضاعه وزيه وقيوده : أن يسعى في ترميم ذلك وإصلاحه . وهذا شأن الكذاب المرائي الذي يبدي للناس خلاف ما يعلمه الله من باطنه ، العامل على عمارة نفسه ومرتبته . وهذا هو النفاق بعينه . ولو كان عاملا على مراد الله منه ، وعلى الصدق مع الله : لأثقلته تلك القيود . وحبسته تلك الرسوم . ولرأى الوقوف عندها ومعها عين الانقطاع عن الله لا إليه . ولما بالى أي ثوب لبس ، ولا أي عمل عمل ، إذا كان على مراد الله من العبد .

[ ص: 264 ] فكلام أبي القاسم الجنيد حق ، كلام راسخ في الصدق ، عالم بتفاصيله وآفاته ، ومواضع اشتباهه بالكذب .

وأيضا فحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي . لا يطيقه إلا أصحاب العزائم . فهم يتقلبون تحته تقلب الحامل بحمله الثقيل . والرياء والكذب خفيف كالريشة لا يجد له صاحبه ثقلا ألبتة . فهو حامل له في أي موضع اتفق ، بلا تعب ولا مشقة ولا كلفة . فهو لا يتقلب تحت حمله ولا يجد ثقله .

وقال بعضهم : لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره .

وقال بعضهم : الصادق الذي يتهيأ له أن يموت ولا يستحيي من سره لو كشف ، قال الله تعالى : فتمنوا الموت إن كنتم صادقين .

قلت : هذه الآية فيها للناس كلام معروف .

قالوا : إنها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم . أعجز بها اليهود . ودعاهم إلى تمني الموت . وأخبر أنهم لا يتمنونه أبدا . وهذا علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ، إذ لا يمكن الاطلاع على بواطنهم إلا بأخبار الغيب . ولم ينطق الله ألسنتهم بتمنيه أبدا .

وقالت طائفة : لما ادعت اليهود أن لهم الدار الآخرة عند الله ، خالصة من دون الناس ، وأنهم أبناؤه وأحباؤه وأهل كرامته ، كذبهم الله في دعواهم . وقال : إن كنتم صادقين فتمنوا الموت . لتصلوا إلى الجنة دار النعيم ، فإن الحبيب يتمنى لقاء حبيبه . ثم أخبر سبحانه : أنهم لا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم من الأوزار والذنوب الحائلة بينهم وبين ما قالوه . فقال ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم .

وقالت طائفة - منهم محمد بن إسحاق وغيره - هذه من جنس آية المباهلة ، وأنهم لما عاندوا ، ودفعوا الهدى عيانا . وكتموا الحق : دعاهم إلى أمر يحكم بينهم وبينه . وهو أن [ ص: 265 ] يدعوا بالموت على الكاذب المفتري . والتمني سؤال ودعاء ، فتمنوا الموت ، وادعوا به على المبطل الكاذب المفتري .

وعلى هذا فليس المراد : تمنوه لأنفسكم خاصة كما قاله أصحاب القولين الأولين . بل معناه : ادعوا بالموت وتمنوه للمبطل . وهذا أبلغ في إقامة الحجة وبرهان الصدق ، وأسلم من أن يعارضوا رسول الله بقولهم : فتمنوه أنتم أيضا . إن كنتم محقين أنكم أهل الجنة . لتقدموا على ثواب الله وكرامته . وكانوا أحرص شيء على معارضته ، فلو فهموا منه ما ذكره أولئك لعارضوه بمثله .

وأيضا فإنا نشاهد كثيرا منهم يتمنى الموت لضره وبلائه ، وشدة حاله . ويدعو به . وهذا بخلاف تمنيه والدعاء به على الفرقة الكاذبة . فإن هذا لا يكون أبدا . ولا وقع من أحد منهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ألبتة . وذلك لعلمهم بصحة نبوته وصدقه ، وكفرهم به حسدا وبغيا . فلا يتمنوه أبدا . لعلمهم أنهم هم الكاذبون . وهذا القول هو الذي نختاره . والله أعلم بما أراد من كتابه .

وقال إبراهيم الخواص : الصادق لا تراه إلا في فرض يؤديه ، أو فضل يعمل فيه .

وقال الجنيد : حقيقة الصدق : أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب .

وقيل : ثلاث لا تخطئ الصادق : الحلاوة ، والملاحة ، والهيبة .

وفي أثر إلهي من صدقني في سريرته صدقته في علانيته عند خلقي .

وقال سهل بن عبد الله : أول خيانة الصديقين : حديثهم مع أنفسهم .

وقال يوسف بن أسباط : لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق أحب إلي من أن أضرب بسيفي في سبيل الله .

وقال الحارث المحاسبي : الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب [ ص: 266 ] الخلق من أجل صلاح قلبه . ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله . ولا يكره أن يطلع الناس على السيئ من عمله . فإن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم . وليس هذا من علامات الصديقين .

وفي هذا نظر . لأن كراهته لاطلاع الناس على مساوئ عمله من جنس كراهته للضرب والمرض وسائر الآلام . وهذا أمر جبلي طبيعي . ولا يخرج صاحبه عن الصدق ، لاسيما إذا كان قدوة متبعا . فإن كراهته لذلك من علامات صدقه . لأن فيها مفسدتين : مفسدة ترك الاقتداء به ، واتباعه على الخير وتنفيذه . ومفسدة اقتداء الجهال به فيها . فكراهيته لاطلاعهم على مساوئ عمله : لا تنافي صدقه ، بل قد تكون من علامات صدقه .

نعم المنافي للصدق : أن لا يكون له مراد سوى عمارة حاله عندهم ، وسكناه في قلوبهم تعظيما له . فلو كان مراده تنفيذا لأمر الله ، ونشرا لدينه ، وأمرا بالمعروف ، ونهيا عن المنكر ، ودعوة إلى الله : فهذا الصادق حقا . والله يعلم سرائر القلوب ومقاصدها .

وأظن أن هذا هو مراد المحاسبي بقوله : ولا يكره اطلاع الناس على السيئ من عمله فإنهم يريدون ذلك فضولا ، ودخولا فيما لا يعني . فرضي الله عن أبي بكر الصديق حيث قال : لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، والله لو منعوني عناقا - أو عقالا - كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه . فهذا وأمثاله يعدونه ويرونه من سيئ الأعمال عند العوام والجهال .

وقال بعضهم : من لم يؤد الفرض الدائم لم يقبل منه الفرض المؤقت .

قيل : وما الفرض الدائم ؟ قال : الصدق .

وقيل : من طلب الله بالصدق أعطاه مرآة يبصر فيها الحق والباطل .

وقيل : عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك . فإنه ينفعك . ودع الكذب حيث [ ص: 267 ] ترى أنه ينفعك . فإنه يضرك . وقيل : ما أملق تاجر صدوق .

التالي السابق


الخدمات العلمية