الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 597 ] فصل :

        وليشتغل بالتخريج والتصنيف إذا تأهل له ، وليعتن بالتصنيف في شرحه وبيان مشكله متقنا واضحا فقلما يمهر في علم الحديث من لم يفعل هذا . وللعلماء في تصنيف الحديث طريقان : أجودهما تصنيفه على الأبواب ؛ فيذكر في كل باب ما حضره فيه ، والثانية تصنيفه على المسانيد فيجمع في ترجمة كل صحابي ما عنده من حديثه صحيحه وضعيفه .

        وعلى هذا له أن يرتبه على الحروف أو على القبائل فيبدأ ببني هاشم ثم بالأقرب فالأقرب ؛ نسبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على السوابق فبالعشرة ثم أهل بدر ثم الحديبية ، ثم المهاجرين بينها وبين الفتح ، ثم أصاغر الصحابة ، ثم النساء بادئا بأمهات المؤمنين ، ومن أحسنه تصنيفه معللا بأن يجمع في كل حديث أو باب طرقه واختلاف رواته ، ويجمعون أيضا حديث الشيوخ كل شيخ على انفراده : كمالك وسفيان وغيرهما .

        والتراجم : كمالك عن نافع عن ابن عمر ، وهشام عن أبيه عن عائشة . والأبواب كرؤية الله تعالى ، ورفع اليدين في الصلاة .

        وليحذر إخراج تصنيفه إلا بعد تهذيبه وتحريره وتكريره النظر فيه ، وليحذر من تصنيف ما لم يتأهل له ، وينبغي أن يتحرى العبارات الواضحة ، والاصطلاحات المستعملة .

        التالي السابق


        ( فصل :

        وليشتغل بالتخريج والتصنيف إذا تأهل له ) مبادرا إليه ، ( وليعتن بالتصنيف في شرحه وبيان مشكله متقنا واضحا ؛ فقلما يمهر في علم الحديث من لم يفعل هذا ) .

        [ ص: 598 ] قال الخطيب : لا يتمهر في الحديث ويقف على غوامضه ، ويستبين الخفي من فوائده إلا من جمع متفرقه ، وألف متشتته ، وضم بعضه إلى بعض ؛ فإن ذلك مما يقوي النفس ، ويثبت الحفظ ، ويذكي القلب ، ويشحذ الطبع ، ويبسط اللسان ، ويجيد البيان ، ويكشف المشتبه ، ويوضح الملتبس ، ويكسب أيضا جميل الذكر ، ويخلده إلى آخر الدهر ، كما قال الشاعر :


        يموت قوم فيحيي العلم ذكرهم والجهل يلحق أمواتا بأموات

        قال : وكان بعض شيوخنا يقول : من أراد الفائدة فليكسر قلم النسخ ، وليأخذ قلم التخريج .

        وقال المصنف في شرح المهذب : بالتصنيف يطلع على حقائق العلوم ودقائقه ويثبت معه ، لأنه يضطره إلى كثرة التفتيش ، والمطالعة ، والتحقيق ، والمراجعة ، والاطلاع على مختلف كلام الأئمة ، ومتفقه ، وواضحه من مشكله ، وصحيحه من ضعيفه ، وجزله من ركيكه ، وما لا اعتراض فيه من غيره ، وبه يتصف المحقق بصفة المجتهد .

        قال الربيع : لم أر الشافعي آكلا بنهار ولا نائما بليل لاهتمامه بالتصنيف .

        ( وللعلماء في تصنيف الحديث ) وجمعه ( طريقان :

        أجودهما تصنيفه على الأبواب ) الفقهية كالكتب الستة ونحوها ، أو غيرها كشعب الإيمان للبيهقي ، والبعث والنشور له وغير ذلك .

        ( فيذكر في كل باب ما حضره ) مما ورد ( فيه ) مما يدل على حكمه إثباتا [ ص: 599 ] أو نفيا ؛ فالأولى أن يقتصر على ما صح أو حسن ، فإن جمع الجميع فليبن علة الضعيف .

        ( الثانية تصنيفه على المسانيد ) كل مسند على حدة .

        قال الدارقطني : أول من صنف مسندا نعيم بن حماد .

        قال الخطيب : وقد صنف أسد بن موسى مسندا ، وكان أكبر من نعيم سنا وأقدم سماعا .

        فيحتمل أن يكون نعيم سبقه في حداثته .

        وقال الحاكم : أول من صنف المسند على تراجم الرجال في الإسلام عبد الله بن موسى العبسي ، وأبو داود الطيالسي .

        وقد تقدم ما فيه في نوع الحسن .

        وقال ابن عدي : يقال : إن يحيى الحماني أول من صنف المسند بالكوفة ، وأول من صنف المسند بالبصرة مسدد ، وأول من صنف المسند بمصر أسد السنة ، وأسد قبلهما ، وأقدم موتا .

        وقال العقيلي عن علي بن عبد العزيز : سمعت يحيى الحماني يقول : لا تسمعوا كلام أهل الكوفة فإنهم يحسدونني لأني أول من جمع المسند .

        ( فيجمع في ترجمة كل صحابي ما عنده من حديثه صحيحه ) ، وحسنه ، ( وضعيفه ، [ ص: 600 ] وعلى هذا له أن يرتبه على الحروف ) في أسماء الصحابة كما فعل الطبراني وهو أسهل تناولا ، ( أو على القبائل فيبدأ ببني هاشم ثم بالأقرب فالأقرب نسبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو على السوابق ) في الإسلام ، ( فبالعشرة ) يبدأ ، ( ثم أهل بدر ثم الحديبية ، ثم المهاجرين بينها وبين الفتح ) ، ثم من أسلم يوم الفتح ، ( ثم أصاغر الصحابة ) سنا كالسائب بن يزيد وأبي الطفيل ، ( ثم النساء بادئا بأمهات المؤمنين ) .

        قال ابن الصلاح : وهذا أحسن .

        ( ومن أحسنه ) أي التصنيف ( تصنيفه ) أي الحديث ( معللا بأن يجمع في كل حديث أو باب طرقه واختلاف رواته ) ، فإن معرفة العلل أجل أنواع الحديث .

        والأولى جعله على الأبواب ليسهل تناوله ، وقد صنف يعقوب بن شيبة مسنده معللا فلم يتم .

        قيل : ولم يتمم مسند معلل قط ، وقد صنف بعضهم مسند أبي هريرة معللا في مائتي جزء .

        تنبيه

        من طرق التصنيف أيضا جمعه على الأطراف ، فيذكر طرف الحديث الدال على [ ص: 601 ] بقيته ويجمع أسانيده ، إما مستوعبا أو مقيدا بكتب مخصوصة .

        ( ويجمعون أيضا حديث الشيوخ كل شيخ على انفراده ، كمالك ، وسفيان ، وغيرهما ) كحديث الأعمش للإسماعيلي ، وحديث الفضيل بن عياض للنسائي وغير ذلك .

        ( و ) يجمعون أيضا ( التراجم كمالك عن نافع عن ابن عمر ، وهشام عن أبيه عن عائشة ) ، وسهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة .

        ( و ) يجمعون أيضا ( الأبواب ) بأن يفرد كل باب على حدة بالتصنيف ، ( كرؤية الله تعالى ) ؛ أفرده الآجري ، ( ورفع اليدين في الصلاة ) والقراءة خلف الإمام أفردهما البخاري ، والنية أفرده ابن أبي الدنيا ، والقضاء باليمين ، والشاهد أفرده الدارقطني ، والقنوت أفرده ابن منده ، والبسملة أفرده ابن عبد البر وغيره ، وغير ذلك .

        ويجمعون أيضا الطرق لحديث واحد كطرق حديث " من كذب علي " للطبراني ، وطرق حديث الحوض للضياء ، وغير ذلك .

        ( وليحذر من إخراج تصنيفه ) من يده ( إلا بعد تهذيبه وتحريره وتكريره النظر فيه ، وليحذر من تصنيف ما لم يتأهل له ) فمن فعل ذلك لم يفلح ، وضره في دينه وعلمه وعرضه .

        قال المصنف من زوائده ( وينبغي أن يتحرى ) في تصنيفه ( العبارات [ ص: 602 ] الواضحة ) والموجزة ، ( والاصطلاحات المستعملة ) ، ولا يبالغ في الإيجاز بحيث يفضي إلى الاستغلاق ، ولا في الإيضاح بحيث ينتهي إلى الركاكة ، وليكن اعتناؤه من التصنيف بما لم يسبق إليه أكثر .

        قال في شرح المهذب : والمراد بذلك أن يكون هناك تصنيف يغني عن مصنفه ، من جميع أساليبه ، فإن أغنى عن بعضها فليصنف من جنسه ، ما يزيد زيادات يحتفل بها مع ضم ما فاته من الأساليب .

        قال : وليكن تصنيفه فيما يعم الانتفاع به ويكثر الاحتياج إليه .

        وقد روينا عن البخاري في آداب طالب الحديث أثرا لطيفا نختم به هذا النوع : أخبرني أبو الفضل الأزهري وغيره سماعا ، أنا أبو العباس المقدسي ، أخبرتنا عائشة بنت علي ، أخبرنا أبو عيسى بن علاق ، أخبرتنا فاطمة بنت سعد الخير ، أخبرنا أبو نصر اليونارتي ، سمعت أبا محمد الحسن بن أحمد السمرقندي يقول : سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن محمد بن صالح بن خلف يقول : سمعت أبا ذر عمار بن محمد بن مخلد التميمي يقول : سمعت أبا المظفر محمد بن أحمد بن حامد البخاري قال : لما عزل أبو العباس الوليد بن إبراهيم بن زيد الهمذاني عن قضاء الري ، ورد بخارى ، فحملني معلمي أبو إبراهيم الختلي إليه ، وقال له : أسألك أن تحدث هذا الصبي بما سمعت من مشايخنا ، فقال : ما لي سماع ، قال : فكيف وأنت فقيه ؟ قال : لأني لما بلغت مبلغ [ ص: 603 ] الرجال تاقت نفسي إلى طلب الحديث فقصدت محمد بن إسماعيل البخاري ، وأعلمته مرادي ، فقال لي : يا بني لا تدخل في أمر إلا بعد معرفة حدوده والوقوف على مقاديره ، واعلم أن الرجل لا يصير محدثا كاملا في حديثه إلا بعد أن يكتب أربعا مع أربع ، كأربع مثل أربع في أربع ، عند أربع بأربع ، على أربع عن أربع لأربع ، وكل هذه الرباعيات لا تتم إلا بأربع ، مع أربع ؛ فإذا تمت له كلها هان عليه أربع وابتلي بأربع ، فإذا صبر على ذلك أكرمه الله في الدنيا بأربع وأثابه في الآخرة بأربع .

        قلت له : فسر لي رحمك الله ما ذكرت من أحوال هذه الرباعيات ، قال : نعم ، أما الأربعة التي يحتاج إلى كتبها هي : أخبار الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، وشرائعه ، والصحابة ومقاديرهم ، والتابعين وأحوالهم ، وسائر العلماء وتواريخهم ، مع أسماء رجالها وكناهم وأمكنتهم وأزمنتهم ، كالتحميد مع الخطب ، والدعاء مع الترسل ، والبسملة مع السورة ، والتكبير مع الصلوات ، مثل المسندات ، والمرسلات ، والموقوفات ، والمقطوعات في صغره ، وفي إدراكه ، وفي شبابه ، وفي كهولته ، عند شغله ، وعند فراغه ، وعند فقره ، وعند غناه ، بالجبال ، والبحار ، والبلدان ، والبراري ، على الأحجار والأصداف ، والجلود والأكتاف ، إلى الوقت الذي يمكنه نقلها إلى الأوراق ، عمن هو فوقه ، وعمن هو مثله ، وعمن هو دونه ، وعن كتاب أبيه ، يتيقن أنه بخط أبيه دون غيره ، لوجه الله تعالى طالبا لمرضاته ، والعمل بما وافق كتاب الله تعالى منها ، ونشرها بين طالبيها ، والتأليف في إحياء ذكره بعده . [ ص: 604 ] ثم لا تتم له هذه الأشياء إلا بأربع هي من كسب العبد : معرفة الكتابة ، واللغة ، والصرف ، والنحو ، مع أربع هن من عطاء الله تعالى : الصحة ، والقدرة ، والحرص ، والحفظ ؛ فإذا صحت له هذه الأشياء هان عليه أربع : الأهل ، والولد ، والمال ، والوطن ، وابتلي بأربع : شماتة الأعداء ، وملامة الأصدقاء ، وطعن الجهلاء ، وحسد العلماء ؛ فإذا صبر على هذه المحن أكرمه الله تعالى في الدنيا بأربع : بعز القناعة ، وبهيبة اليقين ، وبلذة العلم ، وبحياة الأبد ، وأثابه في الآخرة بأربع : بالشفاعة لمن أراد من إخوانه ، وبظل العرش حيث لا ظل إلا ظله ، ويسقي من أراد من حوض محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، وبجوار النبيين في أعلى عليين في الجنة ؛ فقد أعلمتك يا بني بمجملات جميع ما كنت سمعت من مشايخي متفرقا في هذا الباب ، فأقبل الآن على ما قصدتني له ، أو دع .




        الخدمات العلمية