الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : اختلفوا في أن موسى - عليه السلام - كيف عرف أن المنادي هو الله تعالى فقال أصحابنا : يجوز أن يخلق الله تعالى له علما ضروريا بذلك ، ويجوز أن يعرفه بالمعجزة ، قالت المعتزلة : أما العلم الضروري فغير جائز ؛ لأنه لو حصل العلم الضروري بكون هذا النداء كلام الله تعالى لحصل العلم الضروري بوجود الصانع العالم القادر لاستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة ، والذات تكون معلومة بالاستدلال ، ولو كان وجود الصانع تعالى معلوما به بالضرورة ؛ لخرج موسى عن كونه مكلفا ؛ لأن حصول العلم الضروري ينافي التكليف ، وبالاتفاق لم يخرج موسى عن التكليف فعلمنا أن الله تعالى عرفه ذلك بالمعجز ، ثم اختلفوا في ذلك المعجز على وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : منهم من قال نعلم قطعا أن الله تعالى عرفه ذلك بواسطة المعجز ولا حاجة بنا إلى أن نعرف ذلك المعجز ما هو .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : يروى أن موسى - عليه السلام - لما شاهد النور الساطع من الشجرة إلى السماء وسمع تسبيح الملائكة وضع يديه على عينيه فنودي يا موسى . فقال : لبيك إني أسمع صوتك ولا أراك فأين أنت ؟ قال : أنا معك وأمامك وخلفك ومحيط بك وأقرب إليك منك . إن إبليس أخطر بباله هذا الشك وقال : ما يدريك أنك تسمع كلام الله ؟ فقال : لأني أسمعه من فوقي ومن تحتي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي كما أسمعه من قدامي ، فعلمت أنه ليس بكلام المخلوقين . ومعنى إطلاقه هذه الجهات أني أسمعه بجميع أجزائي وأبعاضي حتى كأن كل جارحة مني صارت أذنا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : لعله سمع النداء من جماد كالحصى وغيرها فيكون ذلك معجزا .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أنه رأى النار في الشجرة الخضراء بحيث إن تلك الخضرة ما كانت تطفئ تلك النار وتلك النار ما كانت تضر تلك الخضرة ، وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السابعة : قالوا : إن تكرير الضمير في " إني أنا ربك " كان لتوكيد الدلالة وإزالة الشبهة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثامنة : ذكروا في قوله : ( فاخلع نعليك ) وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : كانتا من جلد حمار ميت فلذلك أمر بخلعهما صيانة للوادي المقدس ، ولذلك قال عقيبه : " إنك بالوادي المقدس طوى " وهذا قول علي - عليه السلام [ ص: 16 ] وقول مقاتل والكلبي والضحاك وقتادة والسدي .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : إنما أمر بخلعهما لينال قدميه بركة الوادي ، وهذا قول الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن يحمل ذلك على تعظيم البقعة من أن يطأها إلا حافيا ؛ ليكون معظما لها وخاضعا عند سماع كلام ربه ، والدليل عليه أنه تعالى قال عقيبه : " إنك بالوادي المقدس طوى " وهذا يفيد التعليل فكأنه قال تعالى : اخلع نعليك ؛ لأنك بالوادي المقدس طوى . وأما أهل الإشارة فقد ذكروا فيها وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن النعل في النوم يفسر بالزوجة والولد فقوله : ( فاخلع نعليك ) إشارة إلى أن لا يلتفت خاطره إلى الزوجة والولد ، وأن لا يبقى مشغول القلب بأمرهما .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : المراد بخلع النعلين ترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة كأنه أمره بأن يصير مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى ، ولا يلتفت بخاطره إلى ما سوى الله تعالى ، والمراد من الوادي المقدس قدس جلال الله تعالى وطهارة عزته يعني أنك لما وصلت إلى بحر المعرفة فلا تلتفت إلى المخلوقات .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن الإنسان حال الاستدلال على الصانع لا يمكنه أن يتوصل إليه إلا بمقدمتين مثل أن يقول العالم المحسوس محدث أو ممكن وكل ما كان كذلك فله مدبر ومؤثر وصانع ، وهاتان المقدمتان تشبهان النعلين ؛ لأن بهما يتوصل العقل إلى المقصود ويتنقل من النظر في الخلق إلى معرفة الخالق ثم بعد الوصول إلى معرفة الخالق وجب أن لا يبقى ملتفتا إلى تينك المقدمتين ؛ لأن بقدر الاشتغال بالغير يبقى محروما عن الاستغراق فيه ، فكأنه قيل له لا تكن مشتغل القلب والخاطر بتينك المقدمتين فإنك وصلت إلى الوادي المقدس الذي هو بحر معرفة الله تعالى ولجة ألوهيته .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة التاسعة : استدلت المعتزلة بقوله : ( فاخلع نعليك ) على أن كلام الله تعالى ليس بقديم إذ لو كان قديما لكان الله قائلا قبل وجود موسى اخلع نعليك يا موسى ، ومعلوم أن ذلك سفه فإن الرجل في الدار الخالية إذا قال : يا زيد افعل ويا عمرو لا تفعل مع أن زيدا وعمرا لا يكونان حاضرين يعد ذلك جنونا وسفها فكيف يليق ذلك بالإله سبحانه وتعالى ، وأجاب أصحابنا عنه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن كلامه تعالى وإن كان قديما إلا أنه في الأزل لم يكن أمرا ولا نهيا .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه كان أمرا بمعنى أنه وجد في الأزل شيء لما استمر إلى ما لا يزال صار الشخص به مأمورا من غير وقوع التغير في ذلك الشيء كما أن القدرة تقتضي صحة الفعل ، ثم إنها كانت موجودة في الأزل من غير هذه الصحة ، فلما استمرت إلى ما لا يزال حصلت الصحة كذا ههنا ، وهذا الكلام فيه غموض وبحث دقيق .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة العاشرة : ليس في الآية دلالة على كراهة الصلاة والطواف في النعل والصحيح عدم الكراهة ؛ وذلك لأنا إن عللنا الأمر بخلع النعلين بتعظيم الوادي وتعظيم كلام الله كان الأمر مقصورا على تلك الصورة ، وإن عللناه بأن النعلين كانا من جلد حمار ميت فجائز أن يكون قد كان محظورا لبس جلد الحمار الميت ، وإن كان مدبوغا فإن كان كذلك فهو منسوخ بقوله - عليه السلام - : " أيما إهاب دبغ فقد طهر " وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نعليه ثم خلعهما في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال : " ما لكم خلعتم نعالكم " قالوا : خلعت فخلعنا قال : " فإن جبريل أخبرني أن فيهما قذرا " فلم يكره النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة في النعل وأنكر على الخالعين خلعهما وأخبرهم بأنه إنما خلعهما لما فيهما من القذر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الحادية عشرة : قرئ طوى بالضم والكسر منصرفا وغير منصرف فمن نونه فهو اسم الوادي ، ومن لم ينونه ترك صرفه ؛ لأنه معدول عن طاوي فهو مثل عمر المعدول عن عامر ويجوز أن يكون اسما للبقعة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 17 ] المسألة الثانية عشرة : في طوى وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه اسم للوادي وهو قول عكرمة وابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : معناه مرتين نحو مثنى أي قدس الوادي مرتين أو نودي موسى - عليه السلام - نداءين يقال ناديته طوى أي مثنى .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : طوى أي طيا قال ابن عباس - رضي الله عنهما - إنه مر بذلك الوادي ليلا فطواه فكان المعنى بالوادي المقدس الذي طويته طيا أي قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه ومن ذهب إلى هذا قال طوى مصدر خرج عن لفظه كأنه قال : طويته طوى كما يقال هدى يهدي هدى والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية