الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ طرق معرفة الأشياء ] قال المتكلمون : يعرف الشيء بأمور ثلاثة : أحدها : بآثاره كالاستدلال بالمصنوع على الصانع ، وبالمبني على الباني . الثاني : بحسب ذاته المخصوصة [ ص: 98 ] الثالث : بالمشاهدة ، ويعرف الله تعالى بآثاره بلا خلاف . قال الله تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } . واختلفوا هل يعرف بحسب ذاته المخصوصة ؟ . فذهبت المعتزلة والقاضي أبو بكر إلى أنه لا يعرف ، واختاره الرازي في أكثر كتبه ، وفي بعضها أنه يعرف ، ونسب إلى الأشعري ، واختاره جماعة من أصحابه . ويعرف بالمشاهدة بلا خلاف عند أهل السنة من الأصحاب ، والثالث أقوى من الثاني ، والثاني من الأول ، وقال بعضهم : لا نسلم قوة معرفة المشاهدة على معرفة الذات مطلقا بل فيه تفصيل : وهو أن المشاهدة في حق عارف للذات أقوى منها في معرفتها بخلاف من لم يعرف الذات . قيل : وهذا لا محيص عنه ، فإن من وضع بين يديه ثلاثة أحجار من بلخش وبنفش وزجاج ، ولا يميز بينها لا تفيده المشاهدة في معرفة الذات شيئا .

                                                      وأبلغ من ذلك أنا نميز الإنسان عن غيره من الحيوانات بالمشاهدة ، وقد حارت الألباب في معرفة الله . ويترتب على هذا أن اكتفاء الأصحاب بالرؤية كالصفة لا يصح إلا في حق العالم بالموصوف ; لتزيل الرؤية الضرر عنه . أما في حق من لا تفيده الرؤية فلا يتجه الاكتفاء بها . ويؤيده ما نشاهده في العقلاء من معاندتهم على ما لا يعرفون ، لا يكتفون برؤيتهم بل يستصحبون الخبيرين بذلك . وقد حكى الرافعي في باب التصرية وجها : أن العيان لا يكفي في حق [ ص: 99 ] من لا يفيده العيان معرفة ، وأنه يخرج على الخلاف في بيع الغائب ولا أثر لعيانه ، قال : وهذا الوجه فيما لو اشترى زجاجة ظنها جوهرة ، واستشهد بمسألتين ذكرهما النووي في فتاويه .

                                                      إحداهما : لو رأى العيب ولم يعلم أنه عيب فإنه يثبت له الخيار إذا كان يخفى على مثله . الثانية : لو رأى العيب وعلم أنه عيب ولكنه ظن غير العيب الذي في نفس الأمر ، ورضي بما ظنه لا بما هو عيب في نفس الأمر ثبت له الخيار إذا كان الذي في نفس الأمر أشد ضررا ، وفيما قاله هذا الفاضل نظر . فقد أطبق أئمة السنة على أن معرفة الله بالمشاهدة هو أتم النظر في حق كل أحد ينعم الله عليه سبحانه برؤيته . ولا يحتاج إلى معرفة الذات قبل ذلك ; لأنه تعالى يخلق فيه علما ضروريا بأن هذا المرئي هو الرب سبحانه ، ولا بد من ذلك ; لأن الإحاطة المقتضية للتكييف مستحيلة في حقه سبحانه ، فلا بد من هذا العلم الضروري لتصح الرؤية .

                                                      وحينئذ فلا يحتاج إلى تقديم معرفة الذات ، وتمثيله بالجواهر الثلاثة ضعيف ، إذ مع العلم الضروري لا يبقى مثال ، بل قد قال الأئمة : معارف الآخرة كلها ضرورية في حق المؤمن والكافر . اللهم إلا أن نقول : العلم الضروري الذي يخلقه الله لهم كاف في معرفة الذات ، ثم تنضم إليه المشاهدة فيكون أتم ، وهذا محتمل . ثم ما رأيته من أنه لا يفيده الرؤية لا يتجه الاكتفاء بها في حقه ، وأن الضرر لا يزول عنه بذلك فيرجع إلى قاعدة المالكية في أن الغبن يثبت الخيار إذا كان بمقدار الثلث فصاعدا ، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة أنه لا يثبت ، [ ص: 100 ] وعن أحمد كمالك وعنه يثبت إذا كان بمقدار السدس .

                                                      والدليل على أنه لا يثبت الخيار قضية حبان بن منقذ ، وأنه كان يخدع في البيع ، فقال له صلى الله عليه وسلم : { إذا بايعت ، فقل : لا خلابة } وشرع له اشتراط الخيار ثلاثة أيام ، فلو كانت الخديعة تثبت الخيار لما احتاج إلى قوله : ( لا خلابة ) ، ولا إلى اشتراط الخيار ، بل كان خيار الغبن كافيا ، فدل على أنه لا يثبت الخيار . واستدلاله بالمسألتين الأخيرتين على أن الرؤية بالصفة لا تفيد إلا في حق العالم بالموصوف وفيه نظر ; لأن مقتضى العقد السلامة عن العيوب ، فلا يغتفر فيها ما يغتفر في غيرها .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية