الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإن تسلف الوالي الزكاة وهلك في يده نظرت ، فإن تسلف بغير مسألة ضمنها ; لأن الفقراء أهل رشد فلا يولى عليهم . فإذا قبض مالهم بغير إذنهم قبل محله ، وجب عليه الضمان . كالوكيل إذا قبض مال موكله قبل محله بغير إذنه . وإن تسلف بمسألة رب المال . فما تلف من ضمان رب المال ; لأنه وكيل رب المال . فكان الهلاك من ضمان الموكل . كما لو وكل رجلا في حمل شيء إلى مكان فهلك في يده . وإن تسلف بمسألة الفقراء فما هلك من ضمانهم ; لأنه قبض بإذنهم فصار كالوكيل إذا قبض دين موكله بإذنه فهلك في يده . وإن تسلف بمسألة الفقراء ورب المال ففيه وجهان : ( أحدهما ) أن ما يتلف من ضمان رب المال ; لأن جنبته أقوى ; لأنه يملك المنع والدفع .

                                      ( والثاني ) أنه من ضمان الفقراء ; لأن الضمان يجب على من له المنفعة ولهذا يجب ضمان العارية على المستعير . والمنفعة ههنا للفقراء فكان الضمان عليهم ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قوله : أهل رشد - بضم الراء وإسكان الشين - ويجوز بفتحها ، ( وقوله ) : يولي عليهم هو - بإسكان الواو وتخفيف اللام - أي لا يثبت عليهم بغير إذنهم بخلاف الصبي والمجنون والسفيه ، ( وقوله ) : لأن جنبته هي - بفتح الجيم والنون .

                                      ( وأما الأحكام ) فاختصرها المصنف وهي مبسوطة في كتب الأصحاب ولخصها الرافعي ، ومختصر ما نقله أن الإمام إذا أخذ من المالك مالا [ ص: 129 ] للمساكين قبل تمام حوله فله حالان : ( أحدهما ) يأخذه بحكم القرض ، فينظر ، إن اقترض بسؤال المساكين - فهو من ضمانهم سواء تلف في يده أو بعد تسليمه إليهم - وهل يكون الإمام طريقا في الضمان حتى يؤخذ منه ويرجع هو على المساكين أم لا ؟ ينظر ، إن علم المقرض أنه يقترض للمساكين بإذنهم - لم يكن طريقا في أصح الوجهين وإن ظن المقرض أنه يقترض لنفسه أو للمساكين من غير سؤالهم فله الرجوع على الإمام ، ثم الإمام يأخذه من مال الصدقة أو يحبسه عن زكاة المقرض ، ولو أقرضه المالك للمساكين ابتداء من غير سؤالهم فتلف في يد الإمام بلا تفريط فلا ضمان على المساكين ولا على الإمام ; لأنه وكيل للمالك .

                                      ولو اقترض الإمام بسؤال المالك والمساكين جميعا فهل هو من ضمان المالك أو المساكين ؟ فيه وجهان يأتي بيانهما في الحال الثاني إن شاء الله تعالى ، وإن اقترض بغير سؤال المالك والمساكين نظر إن اقترض ولا حاجة بهم إلى الاقتراض ، وقع القرض للإمام وعليه ضمانه من خالص ماله ، سواء تلف في يده أو دفعه إلى المساكين ، ثم إن دفع إليهم متبرعا فلا رجوع ، وإن أقرضهم فقد أقرضهم مال نفسه فله حكم سائر القروض . وإن كان اقترض لهم وبه حاجة وهلك في يده فوجهان : ( أحدهما ) أنه من ضمان المساكين يقضيه الإمام من مال الصدقة كالولي إذا اقترض اليتيم فهل المال في يده بلا تفريط يكون الضمان في مال اليتيم ؟ ( وأصحهما ) يكون الضمان من خالص مال الإمام ; لأن المساكين غير متعينين ، وفيهم أهل رشد أو أكثرهم أهل رشد لا ولاية عليهم ، ولهذا لا يجوز منع الصدقة عنهم بلا عذر ولا التصرف في مالهم بالتجارة ، وإنما يجوز الاقتراض لهم بشرط سلامة العاقبة بخلاف اليتيم . فأما إذا دفع المال الذي اقترضه إليهم فالضمان عليهم والإمام طريق ، فإذا أخذ الزكوات والمدفوع إليه بصفة الاستحقاق فله أن يقضيه من الزكوات ، وله أن يحسبه عن زكاة المقرض ، وإن لم يكن المدفوع إليه بصفة الاستحقاق عند تمام حول الزكوات ، لم يجز قضاؤه منها ، بل يقضي من مال نفسه ثم يرجع على المدفوع إليه إن وجد له مالا .

                                      ( الحال الثاني ) أن يأخذ الإمام المال ليحسبه عن زكاة المأخوذ منه عند تمام حوله ، وفيه أربع مسائل كالقرض : ( إحداها ) أن يأخذ [ ص: 130 ] بسؤال المساكين ، فإن دفع إليهم قبل الحول وتم الحول وهم بصفة الاستحقاق والمالك بصفة الوجوب ، وقع الموقع ، وإن خرجوا عن الاستحقاق فعليهم الضمان وعلى المالك الإخراج ثانيا ، وإن تلف في يده قبل تمام الحول بغير تفريط ، نظر إن خرج المالك عن صفة وجوب الزكاة عليه فله الضمان على المساكين وهل يكون الإمام طريقا ؟ فيه وجهان كما في الاقتراض ، وإن لم يخرج عن أن تجب عليه الزكاة فهل يقع المخرج عن زكاته ؟ فيه وجهان : ( أصحهما ) يقع ، وبه قطع ابن الصباغ والمتولي .

                                      ( والثاني ) لا يقع . فعلى هذا له تضمين المساكين . وفي تضمين الإمام وجهان ، فإن لم يكن للمساكين مال صرف الإمام إذا اجتمعت عنده الزكوات ذلك القدر إلى آخرين عن جهة الذي تسلف منه . ثم المذهب الصحيح الذي قطع به الجمهور أنه لا فرق بين أن يكون المساكين متعينين أم لا ، فالحكم في المسألة ما سبق . وحكى السرخسي وجهين : ( أحدهما ) هذا .

                                      ( والثاني ) أن صورة المسألة أن يكونوا متعينين . فإن لم يتعينوا فلا أثر لسؤالهم ويكون الحكم كما سيأتي إن شاء الله تعالى في المسألة الرابعة إذا تسلف بغير مسألة أحد ; لأنه لا اعتبار بطلب غير المتعينين . وذكر السرخسي أيضا وجها في المتعينين أنه لا اعتبار بطلبهم ، بل يكون من ضمان الإمام ; لأنه لا يلزم من تعيينهم حال الطلب تعينهم حال الوجوب . وهذان الوجهان شاذان ضعيفان مردودان .

                                      ( والمسألة الثانية ) أن يتسلف بسؤال المالك ، فإن دفع إلى المساكين وتم الحول وهم بصفة الاستحقاق وقع الموقع ، وإلا رجع المالك على المساكين دون الإمام وإن تلف في يد الإمام لم يجزئ المال . سواء تلف بتفريط الإمام أم بغير تفريط كالتالف في يد الوكيل . ثم إن تلف بتفريط الإمام فعليه ضمانه للمالك وإن تلف بغير تفريط فلا ضمان عليه ولا على المساكين .

                                      ( الثالثة ) أن يتسلف بسؤال المالك والمساكين جميعا ( فالأصح ) عند صاحب الشامل والأكثرين أنه من ضمان المساكين .

                                      ( والثاني ) من ضمان المالك . [ ص: 131 ] الرابعة ) أن يتسلف بغير سؤال المالك والمساكين ; لما رأى من حاجتهم . فهل تكون حاجتهم كسؤالهم ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) لا يكون . فعلى هذا إن دفعه إليهم وخرجوا عن الاستحقاق قبل تمام الحول استرده الإمام منهم ودفعه إلى غيرهم . وإن خرج الدافع عن أهلية الوجوب استرده ورده إليه ، فإن لم يكن للمدفوع إليه مال ضمنه الإمام من مال نفسه فرط أم لم يفرط . وعلى المالك إخراج الزكاة ثانيا إن بقي من أهل الوجوب . وفي وجه ضعيف لا ضمان على الإمام . ثم الوجهان في تنزل الحاجة منزلة سؤالهم هما في حق البالغين . أما إذا كانوا غير بالغين فيبنى على أن الصبي هل تدفع إليه الزكاة من سهم الفقراء والمساكين أم لا ؟ فإن كان له من تلزمه نفقته كأبيه وغيره فوجهان : ( أصحهما ) لا تدفع إليه وإن لم يكن فالصحيح أنها تدفع له إلى قيمة .

                                      ( والثاني ) - لا ; لاستغنائه بسهمه من الغنيمة ، فإن جوزنا الصرف إليه فحاجة الأطفال كسؤال البالغين ، فتسلف الإمام الزكاة واستقراضه لهم كاستقراض قيم اليتيم . هذا إذا كان الذي يلي أمرهم الإمام ، فإن كان وليا مقدما على الإمام فحاجتهم كحاجة البالغين ; لأن لهم من يسأل التسلف لو كان مصلحة لهم . أما إذا قلنا : لا يجوز إلى الصبي فلا تجيء هذه المسألة في سهم الفقراء والمساكين ، وتجيء في سهم الغارمين ونحوه . واعلم أن في المسائل كلها لو تلف المعجل في يد الساعي أو الإمام بعد تمام الحول سقطت الزكاة عن المالك ; لأن الحصول في يدهما بعد الحول كالوصول إلى يد المساكين ، كما لو أخذها بعد الحول ، ثم إن فرط في الدفع إليهم ضمن من مال نفسه لهم وإلا فلا ضمان على أحد . وليس من التفريط انتظاره انضمام غيره إليه لقلته . فإنه لا يجب تفريق كل قليل يحصل عنده . قال أصحابنا : والمراد بالمساكين في هذه المسائل أهل السهمان جميعا ، وليس المراد جميع آحاد الصنف ، بل سؤال طائفة منهم أو حاجتهم . والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية