الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه الاغتياب : افتعال من غابه المتعدي ، إذا ذكره في غيبه بما يسوءه .

فالاغتياب ذكر أحد غائب بما لا يحب أن يذكر به ، والاسم منه الغيبة بكسر الغين مثل الغيلة . وإنما يكون ذكره بما يكره غيبة إذا لم يكن ما ذكره به مما يثلم العرض وإلا صار قذعا .

وإنما قال ولا يغتب بعضكم بعضا دون أن يقول : اجتنبوا الغيبة . لقصد التوطئة للتمثيل الوارد في قوله : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا لأنه لما كان ذلك التمثيل مشتملا على جانب فاعل الاغتياب ومفعوله مهد له بما يدل على ذاتين لأن ذلك يزيد التمثيل وضوحا .

والاستفهام في أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا تقريري لتحقق أن [ ص: 255 ] كل أحد يقر بأنه لا يحب ذلك ، ولذلك أجيب الاستفهام بقوله : " فكرهتموه " .

وإنما لم يرد الاستفهام على نفي محبة ذلك بأن يقال : ألا يحب أحدكم ، كما هو غالب الاستفهام التقريري ، إشارة إلى تحقق الإقرار المقرر عليه بحيث يترك للمقرر مجالا لعدم الإقرار ومع ذلك لا يسعه إلا الإقرار . مثلت الغيبة بأكل لحم الأخ الميت وهو يستلزم تمثيل المولوع بها بمحبة أكل لحم الأخ الميت ، والتمثيل مقصود منه استفظاع الممثل وتشويهه لإفادة الإغلاظ على المغتابين لأن الغيبة متفشية في الناس وخاصة في أيام الجاهلية .

فشبهت حالة اغتياب المسلم من هو أخوه في الإسلام وهو غائب بحالة أكل لحم أخيه وهو ميت لا يدافع عن نفسه ، وهذا التمثيل للهيئة قابل للتفريق بأن يشبه الذي اغتاب بآكل لحم ، ويشبه الذي اغتيب بأخ ، وتشبه غيبته بالموت .

والفاء في قوله : " فكرهتموه " فاء الفصيحة ، وضمير الغائب عائد إلى " أحدكم " ، أو يعود إلى " لحم " .

والكراهة هنا : الاشمئزاز والتقذر . والتقدير : إن وقع هذا أو إن عرض لكم هذا فقد كرهتموه .

وفاء الفصيحة تفيد الإلزام بما بعدها كما صرح به الزمخشري في قوله تعالى : فقد كذبوكم بما تقولون في سورة الفرقان ، أي تدل على أن لا مناص للمواجه بها من التزام مدلول جواب شرطها المحذوف .

والمعنى : فتعين إقراركم بما سئلتم عنه من الممثل به ( إذ لا يستطاع جحده ) تحققت كراهتكم له وتقذركم منه ، فليتحقق أن تكرهوا نظيره الممثل ، وهو الغيبة فكأنه قيل : فاكرهوا الممثل كما كرهتم الممثل به .

وفي هذا الكلام مبالغات : منها الاستفهام التقريري الذي لا يقع إلا على أمر مسلم عند المخاطب فجعلك للشيء في حيز الاستفهام التقريري يقتضي أنك تدعي أنه لا ينكره المخاطب .

ومنها جعل ما هو شديد الكراهة للنفس مفعولا لفعل المحبة للإشعار بتفظيع [ ص: 256 ] حالة ما شبه به وحالة من ارتضاه لنفسه فلذلك لم يقل : أيتحمل أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ، بل قال أيحب أحدكم .

ومنها إسناد الفعل إلى أحد للإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك .

ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخا .

ومنها أنه لم يقتصر على كون المأكول لحم الأخ حتى جعل الأخ ميتا .

وفيه من المحسنات : الطباق بين " أيحب " وبين " فكرهتموه " .

والغيبة حرام بدلالة هذه الآية وآثار من السنة بعضها صحيح وبعضها دونه .

وذلك أنها تشتمل على مفسدة ضعف في أخوة الإسلام . وقد تبلغ الذي اغتيب فتقدح في نفسه عداوة لمن اغتابه فينثلم بناء الأخوة ، ولأن فيها الاشتغال بأحوال الناس وذلك يلهي الإنسان عن الاشتغال بالمهم النافع له وترك ما لا يعنيه .

وهي عند المالكية من الكبائر وقل من صرح بذلك ، لكن الشيخ عليا الصعيدي في حاشية الكفاية صرح بأنها عندنا من الكبائر مطلقا . ووجهه أن الله نهى عنها وشنعها . ومقتضى كلام السجلماسي في كتاب العمل الفاسي أنها كبيرة .

وجعلها الشافعية من الصغائر لأن الكبيرة في اصطلاحهم فعل يؤذن بقلة اكتراث فاعله بالدين ورقة الديانة ، كذا حدها إمام الحرمين .

فإذا كان ذلك لوجه مصلحة مثل تجريح الشهود ورواة الحديث وما يقال للمستشير في مخالطة أو مصاهرة فإن ذلك ليس بغيبة ، بشرط أن لا يتجاوز الحد الذي يحصل به وصف الحالة المسئول عنها .

وكذلك لا غيبة في فاسق بذكر فسقه دون مجاهرة له به . وقد قال النبيء صلى الله عليه وسلم لما استؤذن عنده لعيينة بن حصن بئس أخو العشيرة ليحذره من سمعه إذ كان عيينة يومئذ منحرفا عن الإسلام .

[ ص: 257 ] وعن الطبري صاحب العدة في فروع الشافعية أنها صغيرة ، قال المحلي وأقره الرافعي ومن تبعه . قلت : وذكر السجلماسي في نظمه في المسائل التي جرى بها عمل القضاة في فاس فقال :


ولا تجرح شاهدا بالغيبه لأنها عمت بها المصيبه



وذكر في شرحه : أن القضاة عملوا بكلام الغزالي .

وأما عموم البلوى فلا يوجب اغتفار ما عمت به إلا عند الضرورة والتعذر كما ذكر ذلك عن أبي محمد بن أبي زيد .

وعندي : أن ضابط ذلك أن يكثر في الناس كثرة بحيث يصير غير دال على استخفاف بالوازع الديني فحينئذ يفارقها معنى ضعف الديانة الذي جعله الشافعية جزءا من ماهية الغيبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية