الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
15 [ ص: 63 ] حديث أول لابن شهاب عن أبي سلمة

مالك عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة

التالي السابق


قال أبو عمر :

لا أعلم اختلافا في إسناد هذا الحديث ، ولا في لفظه عند رواة الموطأ عن مالك ، وكذلك رواه سائر أصحاب ابن شهاب ، إلا أن ابن عيينة ; رواه عن الزهري عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أدرك من الصلاة ركعة ; فقد أدرك لم يقل الصلاة ، والمعنى المراد في ذلك واحد ، وقد روى نافع بن زيد عن ابن الهاد ، عن عبد الوهاب بن أبي بكر ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من أدرك ركعة من الصلاة ; فقد أدرك الصلاة وفضلها ، وهذه لفظة لم يقلها أحد عن ابن شهاب غير عبد الوهاب هذا ، وليس بحجة على من خالفه فيها من أصحاب ابن شهاب على [ ص: 64 ] أن الليث بن سعد قد روى هذا الحديث عن ابن الهاد ، عن ابن شهاب لم يذكر في إسناده عبد الوهاب ، ولا جاء بهذه اللفظة أعني قوله : وفضلها ، وقد روى عمار بن مطر عن مالك ، عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ووقتها وهذا لم يقله عن مالك عمار بن مطر ، وليس ممن يحتج به فيما خولف فيه ، وقد أخبرنا محمد بن عمروس ثنا علي بن عمر الحافظ حدثنا إبراهيم بن حماد : حدثنا يعقوب بن إسحاق القلزمي : حدثنا أبو علي الحنفي : حدثنا مالك عن الزهري ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الفضل لم يقله غير الحنفي عن مالك والله أعلم ولم يتابع عليه ، وهو أبو علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي ، وسنذكر ما للفقهاء في هذا المعنى بعون الله ، إن شاء الله .

وقد روى هذا الحديث عن مالك حماد بن زيد حدثنا أحمد بن فتح قال : حدثنا أحمد بن الحسن الرازي قال : حدثنا أبو شعيب صالح بن شعيب بن زياد البصري قال : حدثنا إبراهيم بن الحجاج الشامي : حدثنا حماد بن زيد ، عن مالك عن ابن شهاب [ ص: 65 ] عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وحدثنا خلف بن قاسم : حدثنا أبو العباس أحمد بن الحسن بن إسحاق بن عتبة : حدثنا أبو شعيب صالح بن شعيب بن أبان الزاهد في شوال سنة إحدى وثمانين ومائتين قال : حدثنا إبراهيم بن الحجاج الشامي حدثنا حماد بن زيد ، عن مالك بن أنس ، عن ابن شهاب عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة هذا هو الصحيح عن حماد بن زيد عن مالك ، ومن قال فيه عن حماد عن مالك بهذا الإسناد : من أدرك ركعة من الصبح . . . الحديث فقد أخطأ .

قال أبو عمر :

أما قوله في هذا الحديث فقد أدرك الصلاة فإنه قد اختلف في معناه فقالت طائفة من أهل العلم : أراد بقوله ذلك : أنه أدرك وقتها حكى أبو عبد الله أحمد بن محمد بن سعد الداودي في كتابه الموجز : عن داود بن علي وأصحابه ; قالوا : إذا أدرك الرجل من الظهر أو العصر ركعة وقام يصلي الثلاث ركعات فقد أدرك الوقت في جماعة ، وثوابه على الله عز وجل

قال أبو عمر :

هؤلاء قوم جعلوا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من أدرك ركعة من الصلاة ; فقد أدرك الصلاة " في معنى قوله عليه السلام من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس ; فقد أدرك [ ص: 66 ] العصر ، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس ; فقد أدرك الصبح فليس كما ظنوا لأنهما حديثان لكل واحد منهما معنى ، وقد ذكرنا كلا في موضعه من كتابنا هذا ، والحمد لله .

وقال آخرون : من أدرك ركعة من الصلاة ; فقد أدرك فضل الجماعة ; لأن صلاته صلاة جماعة في فضلها وحكمها ، واستدلوا من أصولهم على ذلك بأنه لا يعيد في جماعة من أدرك ركعة من صلاة الجماعة ، وقال آخرون : معنى هذا الحديث : أن مدرك ركعة من الصلاة مدرك لحكمها وهو كمن أدرك جميعها فيما يفوته من سهو الإمام وسجوده لسهوه ، ولو أدرك الركعة مسافر من صلاة مقيم ; لزمه حكم صلاة المقيم ، وكان عليه الإتمام ونحو هذا من حكم الصلاة .

قال أبو عمر :

ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة يوجب الإدراك التام للوقت والحكم والفضل إن شاء الله ; إذا صلى تمام الصلاة ألا ترى أن من أدرك الإمام راكعا فدخل معه وركع قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركعة أنه مدرك عند الجمهور حكم الركعة ، وأنه كمن ركعها من أول الإحرام مع إمامه ، فكذلك مدرك ركعة من الصلاة مدرك لها ، وقد أجمع علماء المسلمين أن من أدرك ركعة من صلاة من صلاته لا تجزئه ولا تغنيه عن إتمامها ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وهذا نص يكفي ويشفي فدل إجماعهم في ذلك على أن هذا الحديث ليس على ظاهره ، وأن فيه مضمرا بينه الإجماع والتوقيف وهو [ ص: 67 ] إتمام الصلاة وإكمالها فكأنه - صلى الله عليه وسلم - قال : من أدرك ركعة من الصلاة مع إمامه ; ثم قام بعد سلام إمامه ، وأتم صلاته وحده على حكمها ; فقد أدركها كأنه قد صلاها مع الإمام من أولها هذا تقدير قوله ذلك - صلى الله عليه وسلم - بما ذكرنا من الإجماع وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان ذلك ممتنع أن يكون مدركا لفضلها وحكمها ووقتها ; فالذي عليه مدار هذا الحديث وفقهه : أن مدرك ركعة من الصلاة مدرك لحكمها في السهو وغيره ، وأما الفضل فلا يدرك بقياس ولا نظر ؛ لأن الفضائل لا تقاس ; فرب جماعة أفضل من جماعة ، وكم من صلاة غير متقبلة من صاحبها ، وإذا كانت الأعمال لا تقع المجازاة عليها إلا على قدر النيات ، وهذا ما لا اختلاف فيه فكيف يعرف قدر الفضل مع مغيب النيات عنا ، والمطلع عليهما العالم بها يجازي كلا بما يشاء لا شريك له ، وقد يقصد الإنسان المسجد ، فيجد القوم منصرفين من الصلاة فيكتب له أجر من شهدها لصحة نيته والله أعلم .

وقد روي مثل هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الله بن مسلمة قال : حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد يعني ابن طحلاء عن محصن بن علي عن عوف بن الحارث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من [ ص: 68 ] توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها أو حضرها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا .

حدثنا أبو محمد قاسم بن محمد قال : حدثنا خالد بن سعد قال : حدثنا محمد بن عبد الله المعروف بابن العواف قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال : حدثنا عفان ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا نعيم بن حماد قال : حدثنا ابن المبارك قال : حدثنا أبو عوانة قال : حدثنا يعلى بن عطاء ، عن معبد بن هرمز ، عن سعيد بن المسيب قال : حضر رجلا من الأنصار الموت ; فقال من في البيت ؟ قالوا : أهلك ، وإخوانك ، وجلساؤك ، قال : ارفعوني فأسنده ابنه ففتح عينيه فسلم على القوم فردوا عليه ، وقالوا : خبرنا ، قال : إني محدثكم اليوم حديثا ما حدثت به أحدا منذ سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أحدثكموه اليوم إلا احتسابا : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد فصلى في جماعة ; لم يرفع رجله اليمنى إلا كتب له بها حسنة ، ولم يضع رجله اليسرى إلا حط الله عنه بها خطيئة حتى يأتي المسجد فليقرب أو ليبعد ; فإذا صلى بصلاة الإمام انصرف ، وقد غفر له فإن هو أدرك بعضها وفاته بعضها فأتم ما فاته كان كذلك فإن هو أدرك الصلاة وقد صليت فصلى صلاته وأتمها بركوعها وسجودها كان كذلك .

[ ص: 69 ] وروى شريك عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال : من أدرك التشهد فقد أدرك الصلاة قال شريك : يعني فضلها ، وروى ابن علية عن كثير بن شنظير عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة قال : إذا انتهى إلى القوم وهم قعود في آخر صلاتهم ; فقد دخل في التضعيف ، وإذا انتهى إليهم وقد سلم الإمام ولم يتفرقوا ; فقد دخل في التضعيف قال عطاء : وكان يقول : إذا خرج من بيته وهو ينويهم فأدركهم أو لم يدركهم ; فقد دخل في التضعيف ، وقال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يقول : إن دخل مع الإمام في التشهد فقد دخل في التضعيف ، وكان أبو سلمة وهو راوي بنحو هذا حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن عبد السلام : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن سعيد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة قال : من خرج من بيته قبل أن يسلم الإمام ; فقد أدرك فهذا أبو سلمة يفتي بما يرى من الفضل ، وهو فقيه جليل روى هذا الحديث وعلم مخرجه ; فوجب أن لا يقطع في شيء من الفضائل فإن الله عز وجل هو المبتدئ بها ، والمتفضل لا شريك له إما على قدر النيات ، وإما لما شاء مما سبق في علمه ، وإذا كان منتظر الصلاة كالمصلي في الفضل ، ومن نوى الشيء كمن عمله في الفضائل فأي مدخل هاهنا للقياس والنظر ؟

وسنزيد هذا الباب بيانا في باب محمد بن المنكدر من كتابنا هذا عند قوله - صلى الله عليه وسلم - ما من امرئ يكون له صلاة بليل فيغلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجر صلاته ، وكان نومه صدقة عليه [ ص: 70 ] ونوضح ذلك بالأثر الصحيح ; إن شاء الله تعالى ، وأولى ما قيل به في هذا الباب من آراء الرجال قول أبي هريرة ، وقول أبي سلمة لروايتهما لهذا المعنى ، وموضعهما من العلم ، وظاهر هذا الحديث حجة لمن تقلده وبالله التوفيق ، وفي هذا الحديث من الفقه أيضا : أن من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى فصلى ركعتين ، ومن لم يدرك منها ركعة صلى أربعا ; لأن في قوله - صلى الله عليه وسلم - من أدرك ركعة من الصلاة ; فقد أدرك الصلاة دليلا على أن من لم يدرك منها ركعة فلم يدركها ، ومن لم يدرك الجمعة صلى أربعا ، وهذا موضع اختلف الفقهاء فيه فذهب مالك والشافعي وأصحابهما والثوري والحسن بن حي والأوزاعي ، وزفر بن الهذيل ، ومحمد بن الحسن في الأشهر عنه ، والليث بن سعد ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، وأحمد بن حنبل إلى أن من لم يدرك ركعة من صلاة الجمعة مع الإمام صلى أربعا .

وقال أحمد : إذا فاته الركوع صلى أربعا ، وإذا أدرك ركعة صلى إليها أخرى عن غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم ابن مسعود وابن عمر وأنس ذكره الأثرم عن أحمد ثم قال : حدثنا أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : إذا أدرك من الجمعة ركعة صلى إليها أخرى ، وإذا أدركهم جلوسا صلى أربعا قال أبو عبد الله : ما أغربه يعني أن هذا الحديث غريب عن ابن عمر وذكر الأثرم عن سعيد بن المسيب وإبراهيم والزهري مثله .

[ ص: 71 ] قال أبو عمر :

قد روي عن علي بن أبي طالب أيضا مثله ، وعن الحسن البصري وعلقمة والأسود وعروة ، وبه قال إسحاق : وأبو ثور ، وقال ابن شهاب : هي السنة .

ذكر مالك في موطئه أنه سمع ابن شهاب يقول : من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فليصل أخرى قال ابن شهاب : وهي السنة قال مالك : وعلى ذلك أدركت أهل العلم ببلدنا وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من أدرك ركعة من الصلاة ; فقد أدرك الصلاة حدثنا خلف بن قاسم : حدثنا عبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن عمر قالا : حدثنا يوسف بن يزيد : حدثنا نعيم بن حماد : حدثنا ابن المبارك ، عن معمر والأوزاعي ، ومالك بن أنس عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها قال الزهري : فنرى الجمعة من الصلاة ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : إذا أحرم في الجمعة قبل سلام الإمام صلى ركعتين ، وروي ذلك أيضا عن ابراهيم النخعي والحكم بن عتيبة وحماد ، وهو قول داود ، واحتجوا بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا ، وقد روي : ما فاتكم فاقضوا ، قالوا : والذي فات ركعتان لا أربع ، ومن أدرك الإمام قبل سلامه فقد أدرك ; لأنه مأمور بالدخول معه ، وروي عن محمد بن الحسن القولان جميعا ، وروي عنه أيضا أنه قال : يصلي أربعا يقعد في الثنتين الأوليين بمقدار التشهد فإن لم يفعل أمرته أن يعيد أربعا .

[ ص: 72 ] قال أبو عمر :

في قوله - صلى الله عليه وسلم - ما أدركتم فصلوا مع قول الجمهور فيمن أدرك الإمام قد رفع رأسه من آخر ركعة أنه يصلي معه السجدتين والجلوس ولا يعتد بشيء من ذلك - دليل على فساد قول عبد العزيز بن أبي سلمة حيث قال : إذا أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد قعد بغير تكبير ، فإذا سلم الإمام قام وكبر ودخل في صلاة نفسه قال : وإن قعد مع الإمام بتكبير سلم إذا فرغ الإمام للظهر . وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة فساد قول من قال : إن من فاتته الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخص جمعة من غيرها ، وقد قال بأن من فاتته الخطبة صلى أربعا جماعة من التابعين ، منهم : عطاء وطاوس ومجاهد ومكحول ، وقد حدثني محمد بن عبد الله قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا إسحاق بن أبي حسان قال : حدثنا هشام بن عمار قال : حدثنا عبد الحميد قال : حدثنا الأوزاعي قال : سألت الزهري عن رجل فاتته خطبة الإمام يوم الجمعة ، وأدرك الصلاة فقال : حدثني أبو سلمة أن أبا هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أدرك ركعة من صلاة فقد أدركها ، واختلف العلماء في حد إدراك الركعة مع الإمام ; فروي عن أبي هريرة من طريق فيه نظر أنه قال : من أدرك القوم ركوعا فلا يعتد [ ص: 73 ] بها وهذا قول لا نعلم أحدا قال به من فقهاء الأمصار ، ولا من علماء التابعين ، وقد روي معناه عن أشهب ، وروي عن جماعة من التابعين أنهم قالوا : إذا أحرم الداخل والناس ركوع أجزأه ، وإن لم يدرك الركوع ، وبهذا قال ابن أبي ليلى والليث بن سعد ، وزفر بن الهذيل قالوا : إذا كبر قبل أن يرفع الإمام رأسه ركع كيف أمكنه واتبع الإمام ، وكان بمنزلة النائم ، واعتد بالركعة ، وقد روي عن ابن أبي ليلى والليث بن سعد ، وزفر بن الهذيل ، والحسن بن زياد أنه إذا كبر بعد رفع الإمام رأسه من الركعة قبل أن يركع ; اعتد بها ، وقال الشعبي : إذا انتهيت إلى الصف المؤخر ولم يرفعوا رءوسهم ، وقد رفع الإمام رأسه فركعت فقد أدركت ; لأن بعضهم أئمة ببعض رواه داود عن الشعبي ، وقال جمهور العلماء : من أدرك الإمام وركع وأمكن يديه من ركبتيه قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع ; فقد أدرك الركعة ومن لم يدرك ذلك فقد فاتته الركعة ، ومن فاتته الركعة فقد فاتته السجدة ، لا يعتد بالسجود ، وعليه أن يسجد مع الإمام ، ولا يعتد به ، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم وهو قول الثوري ، والأوزاعي وأبي ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق ، وروي ذلك عن علي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي ، وميمون بن مهران ، وعروة بن الزبير ، ذكر [ ص: 74 ] ابن أبي شيبة ، أخبرنا حفص بن غياث عن ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : إذا جئت والإمام راكع فوضعت يديك على ركبتيك قبل أن يرفع رأسه فقد أدركت ، وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني نافع عن ابن عمر قال : إذا أدركت الإمام راكعا فركعت قبل أن يرفع رأسه ; فقد أدركت ، وإن رفع قبل أن تركع فقد فاتتك .

وعن معمر عن الزهري عن سالم أن زيد بن ثابت وابن عمر قالا في الذي يدرك القوم ركوعا مثل ذلك أيضا ، قالا : وإن وجدهم سجودا سجد معهم ، ولم يعتد بذلك .

وذكر مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول : إذا فاتتك الركعة فقد فاتتك السجدة قال مالك : وبلغني أن أبا هريرة كان يقول : من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة ، ومن فاته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير ، وذكر ابن أبي شيبة عن يحيى بن آدم قال : حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن هبيرة عن علي رضي الله عنه قال : لا يعتد بالسجود إذا لم يدرك الركوع قال : وحدثنا يحيى بن آدم : حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص ، وهبيرة عن عبد الله قال : إذا لم يدرك الركوع فلا يعتد بالسجود .

واختلف العلماء أيضا فيما يكبر من أدرك القوم مع الإمام ركوعا فقالت طائفة : تجزئه تكبيرة واحدة ، واختلف القائلون بهذا فمنهم من قال : يكبر تلك التكبيرة واقفا يحرم بها ثم ينحط ، ولا تجزئه إن كبرها في حال الانحطاط للركوع ; لأن الصلاة إنما تفتتح بالقيام لا بالركوع ومنهم من قال : إن ابتدأها واقفا وانحط بها لركوعه مفتتحا لصلاته بنية التحريم أجزأه ذلك .

ذكر مالك عن ابن شهاب قال : إذا [ ص: 75 ] أدرك الرجل الركعة فكبر تكبيرة واحدة أجزأت عنه تلك التكبيرة قال مالك : وذلك إذا نوى بتلك التكبيرة افتتاح الصلاة هكذا في الموطآت عن مالك وليحيى بن يحيى في الموطأ عن مالك فيمن سها عن تكبيرة الافتتاح وكبر للركوع الأول أن ذلك يجزي عنه إذا نوى بهذا الافتتاح ، وهذا يحتمل القولين جميعا ، وكذلك اختلف في ذلك المتأخرون من أصحاب مالك وتحصيل المذهب أنه إذا افتتحها قائما وانحط بها مكبرا راكعا أنها تجزيه من تكبيرة الإحرام إذا نواها بذلك ، وذكر ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر وزيد بن ثابت قالا : إذا أدرك القوم ركوعا فإنه تجزيه تكبيرة واحدة وهو قول عروة وإبراهيم وعطاء والحسن وقتادة والحكم بن عتيبة وميمون وجماعة ، وكلهم يستحب أن يكبر تكبيرتين : واحدة للإحرام ، وثانية للركوع ، فإن كبر واحدة لافتتاح الصلاة والركعة أجزأه ، وعلى هذا مذهب جماعة الفقهاء بالحجاز والعراق وأتباعهم .

وقال ابن سيرين وحماد بن أبي سليمان : لا يجزيه حتى يكبر تكبيرتين : واحدة يفتتح بها ، وثانية يركع بها ، والقول الأول أصح من جهة النظر وقد بينا ما يجب من التكبير ، وما لا يجب منه في الباب الذي بعد هذا والحمد لله .

ومن هذا الباب مراعاة الركعة عند مالك وجماعة معه : المسافر يصلي وراء المقيم ، وقد اختلف العلماء فيها ; فقال مالك وأصحابه إذا لم يدرك المسافر من صلاة المقيم ركعة صلى ركعتين ، وإن أدرك مع المقيم ركعة صلى أربعا ، وهو قول الحسن والنخعي والزهري وقتادة ، وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل ، وأبو ثور : إذا دخل المسافر في صلاة المقيم صلى صلاة مقيم [ ص: 76 ] أربعا وإن أدركه في التشهد ، وروي ذلك عن ابن عمر ، وابن عباس وجماعة من التابعين ، وفي هذه المسألة أيضا قولان آخران يردهما هذا الحديث : أحدهما : أن المسافر إذا أدرك ركعتين من صلاة المقيم استجزأ بهما ، وسلم بسلامه ، روي هذا عن طاوس والشعبي والآخر : أن للمسافر أن ينوي خلف المقيم صلاة مسافر ، فإذا تشهد في الجلسة الوسطى سلم وخرج ، وإن أدرك المقيم جالسا صلى صلاة مسافر : هذا قول إسحاق بن راهويه ، وهذان قولان ضعيفان شاذان ، والناس على القولين الأولين ، ومن هذا الباب أيضا : المأموم لا يدرك ركعة مع الإمام أو يدركها ، وقد سها الإمام قبل أن يدخل معه هذا الداخل هل عليه سجود السهو أم لا ؟ فقال مالك : إذا أدرك معه ركعة لزمه أن يسجد معه لسهوه ، وإن لم يدرك معه ركعة لم يلزمه ذلك ، ومذهب مالك في ذلك أن سجدتي السهو إن كانتا قبل السلام سجدهما معه ، وإن كانتا بعد السلام لم يسجدهما معه ، وسجدهما إذا قضى باقي صلاته وهو قول الأوزاعي ، وقال الشافعي والكوفيون وسائر الفقهاء : من دخل مع الإمام في بعض سهوه لزمه ويسجد معه ، وعن الشافعي أنه يسجدهما بعد القضاء أيضا .

قال أبو عمر :

من راعى الركعة وإدراكها في هذه المسائل شهد له ظاهر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة لأن من أدرك الصلاة من أولها لزمه حكمها في كل شيء منها ; فقد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدرك ركعة منها [ ص: 77 ] كمدركها فذلك عندي على العموم والله أعلم .

ومن هذا الباب عند مالك وأصحابه الرجل يدرك ركعة من صلاة الجماعة فلا يعيد تلك الصلاة في جماعة إذا أدرك منها ركعة تامة وإن لم يدرك إلا السجود أو الجلوس فله أن يعيد في جماعة ، ومن هذا الباب أيضا الحكم فيمن أدرك ركعة من الصلاة : هل هي أول صلاته أو آخرها فاختلف العلماء في ذلك : فروي عن مالك أن ما أدرك هو أول صلاته إلا أنه يقضي ما فاته بالحمد وسورة ، ولم يختلف قول مالك وأصحابه أن المأموم يقضي ما فاته على حسب ما قرأ إمامه ، وقال ابن القاسم : وما أدرك فهو أول صلاته ورواه عن مالك ، وقول الشافعي في هذه المسألة كرواية ابن القاسم سواء ما أدرك هو أول صلاته ويقضي بالحمد لله وسورة وهو قول الأوزاعي ومحمد بن الحسن ، وبه قال أحمد بن حنبل ، والطبري وجماعة ، وروى ابن عبد الحكم عن مالك أن ما أدرك فهو آخر صلاته وبه قال أشهب ، وهو قول أبي حنيفة والثوري وأبي يوسف والحسن بن حي وكل هؤلاء القائلين بالقولين جميعا يقولون يقضي ما فاته بالحمد وسورة على حسب ما قرأ إمامه ، وقد روي عن علي بن أبي طالب ، وأبي الدرداء ، وسعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، وعمر بن عبد العزيز ، ومكحول وعطاء والزهري : أن ما أدرك فهو أول صلاته ، ولم يرو عنهم في قضاء القراءة شيء منصوص ، وروي عن ابن عمر ، ومجاهد وابن سيرين : أن ما أدرك فهو آخر صلاته ، ومن قال هذا القول فليس يجيء على أصله إلا القراءة كما قرأ الإمام لا غيره وقال المزني صاحب الشافعي وداود بن علي ، وإسحاق بن راهويه ، وطائفة منهم عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ما أدرك فهو أول [ ص: 78 ] صلاته ، ويقرأ في الركعتين اللتين يقضيهما بالحمد وحدها

قال أبو عمر :

هذا الاختلاف كله إنما هو في القضاء للقراءة ، ولا يختلفون أن من فاته شيء من صلاته فهو بان في ركوعه وسجوده ; فقف على هذا الأصل ، والقياس على قول من قال : ما أدرك فهو أول صلاته ما قاله المزني والله أعلم ، ولم يختلفوا أن من فاته بعض صلاته يتشهد في آخرها ويحرم إذا دخل ، وهذا يدل على أن ما أدرك فهو أول صلاته ويقضي آخرها وبالله التوفيق .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : وما فاتكم فاقضوا ويحتج بهذا كل من قال : ما أدرك فهو آخر صلاته ، وسنذكر الروايات في ذلك على وجهها إن شاء الله في باب العلاء بن عبد الرحمن من كتابنا هذا ، وبالله توفيقنا وعوننا




الخدمات العلمية