الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : قوله تعالى : ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) قال صاحب " الكشاف " : ( في الله ) أي في ذات الله ، ومن أجله . يقال : هو حق عالم وجد عالم أي عالم حقا وجدا ومنه ( حق جهاده ) وهاهنا سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : ما وجه هذه الإضافة وكان القياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه كما قال : ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) ؟ والجواب : الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص ، فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت الإضافة إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : ما هذا الجهاد ؟ الجواب : فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن المراد قتال الكفار خاصة ، ومعنى ( حق جهاده ) أن لا يفعل إلا عبادة لا رغبة في الدنيا من حيث الاسم أو الغنيمة . والثاني : أن يجاهدوا آخرا كما جاهدوا أولا ، فقد كان جهادهم في الأول أقوى وكانوا فيه أثبت نحو صنعهم يوم بدر ، روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعبد الرحمن بن عوف : أما علمت أنا كنا نقرأ : ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) في آخر الزمان كما جاهدتموه في أوله ؟ فقال عبد الرحمن : ومتى ذاك يا أمير المؤمنين ؟ قال : إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء ، واعلم أنه يبعد أن تكون هذه الزيادة من القرآن وإلا لنقل كنقل نظائره ، ولعله إن صح ذلك عن الرسول فإنما قاله كالتفسير للآية ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ : وجاهدوا في الله حق جهاده كما جاهدتم أول مرة . فقال عمر : من الذي أمرنا بجهاده ؟ فقال : قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس ، فقال : صدقت . والثالث : قال ابن عباس : حق جهاده : لا تخافوا في الله لومة لائم . والرابع : قال الضحاك : واعملوا لله حق عمله . والخامس : استفرغوا وسعكم في إحياء دين الله وإقامة حقوقه بالحرب باليد واللسان ، وجميع ما يمكن وردوا أنفسكم عن الهوى والميل . والوجه السادس : قال عبد الله بن المبارك : حق جهاده : [ ص: 64 ] مجاهدة النفس والهوى . ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك قال : رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر والأولى أن يحمل ذلك على كل التكاليف ، فكل ما أمر به ونهي عنه فالمحافظة عليه جهاد .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : هل يصح ما نقل عن مقاتل والكلبي أن هذه الآية منسوخة بقوله : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) [ التغابن : 16 ] كما أن قوله : ( اتقوا الله حق تقاته ) [ آل عمران : 102 ] منسوخ بذلك ؟ الجواب : هذا بعيد ؛ لأن التكليف مشروط بالقدرة لقوله تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) [ البقرة : 286 ] فكيف يقول الله وجاهدوا في الله على وجه لا تقدرون عليه ؟ وكيف وقد كان الجهاد في الأول مضيقا حتى لا يصح أن يفر الواحد من عشرة ، ثم خففه الله بقوله : ( الآن خفف الله عنكم ) [ الأنفال : 66 ] ؟ أفيجوز مع ذلك أن يوجبه على وجه لا يطاق حتى يقال إنه منسوخ ؟

                                                                                                                                                                                                                                            النوع الثالث : بيان ما يوجب قبول هذه الأوامر وهو ثلاثة : الأول : قوله : ( هو اجتباكم ) ومعناه أن التكليف تشريف من الله تعالى للعبد ، فلما خصكم بهذا التشريف فقد خصكم بأعظم التشريفات واختاركم لخدمته والاشتغال بطاعته ، فأي رتبة أعلى من هذا ؟ وأي سعادة فوق هذا ؟ ويحتمل في اجتباكم خصكم بالهداية والمعونة والتيسير .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية