الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      فصل في بيان شرف علم الأصول اعلم أن العلوم ثلاثة أصناف :

                                                      الأول : عقلي محض ، كالحساب والهندسة .

                                                      والثاني : لغوي ، كعلم اللغة والنحو والصرف والمعاني والبيان والعروض .

                                                      والثالث : الشرعي وهو علم القرآن والسنة ، ولا شك أنه أشرف [ ص: 21 ] الأصناف ، ثم أشرف العلوم بعد الاعتقاد الصحيح معرفة الأحكام العملية ، ومعرفة ذلك بالتقليد ونقل الفروع المجردة يستفرغ جمام الذهن ولا ينشرح بها الصدر ، لعدم أخذه بالدليل ، وشتان بين من يأتي بالعبادة تقليدا لإمامه بمعقوله وبين من يأتي بها وقد ثلج صدره عن الله ورسوله ، وهذا لا يحصل إلا بالاجتهاد ، والناس في حضيض عن ذلك ، إلا من تغلغل بأصول الفقه ، وكرع من مناهله الصافية ، وأدرع ملابسه الضافية ، وسبح في بحره ، وربح من مكنون دره .

                                                      قال إمام الحرمين في كتاب المدارك " وهو من أنفس كتبه : والوجه لكل متصد للإقلال بأعباء الشريعة أن يجعل الإحاطة بالأصول شوقه الآكد ، وينص مسائل الفقه عليها نص من يحاول بإيرادها تهذيب الأصول ، ولا ينزف جمام الذهن في وضع الوقائع مع العلم بأنها لا تنحصر مع الذهول عن الأصول . [ ص: 22 ]

                                                      وقال الغزالي في المستصفى " : خير العلم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع علم الفقه ، وأصول الفقه من هذا القبيل ، فإنه يأخذ من صفو العقل والشرع سواء السبيل ، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول ، ولا هو مبني على التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد ، ولأجل شرف علم أصول الفقه ورفعته وفر الله دواعي الخلق على طلبته ، وكان العلماء به أرفع مكانا ، وأجلهم شأنا ، وأكثرهم أتباعا وأعوانا .

                                                      وقال أبو بكر القفال الشاشي في كتابه " الأصول " : اعلم أن النص على حكم كل حادثة عينا معدوم ، وأن للأحكام أصولا وفروعا ، وأن الفروع لا تدرك إلا بأصولها ، وأن النتائج لا تعرف حقائقها إلا بعد تحصيل العلم بمقدماتها ، فحق أن يبدأ بالإبانة عن الأصول لتكون سببا إلى معرفة الفروع .

                                                      ثم اختلف في نسبة الأصول إلى الفقه ، فقيل : علم الأصول بمجرده كالميلق الذي يختبر به جيد الذهب من رديئه ، والفقه كالذهب ، فالفقيه الذي لا أصول عنده ككاسب مال لا يعرف حقيقته ، ولا ما يدخر منه مما لا يدخر ، والأصولي الذي لا فقه عنده كصاحب الميلق الذي لا ذهب عنده ، فإنه لا يجد ما يختبره على ميلقه .

                                                      وقيل : الأصولي كالطبيب الذي لا عقار عنده ، والفقيه كالعطار الذي عنده كل عقار ، ولكن لا يعرف ما يضر ولا ما ينفع .

                                                      وقيل : الأصولي كصانع السلاح ، وهو جبان لا يحسن القتال به ، والفقيه كصاحب سلاح ولكن لا يحسن إصلاحها إذا فسدت ، ولا جماعها إذا صدعت . [ ص: 23 ]

                                                      فإن قيل : هل أصول الفقه إلا نبذ جمعت من علوم متفرقة ؟ نبذة من النحو كالكلام على معاني الحروف التي يحتاج الفقيه إليها ، والكلام في الاستثناء ، وعود الضمير للبعض ، وعطف الخاص على العام ونحوه ، ونبذة من علم الكلام كالكلام في الحسن والقبح ، وكون الحكم قديما ، والكلام على إثبات النسخ ، وعلى الأفعال ونحوه ، ونبذة من اللغة ، كالكلام في موضوع الأمر والنهي وصيغ العموم ، والمجمل والمبين ، والمطلق والمقيد ، ونبذة من علم الحديث كالكلام في الأخبار ، فالعارف بهذه العلوم لا يحتاج إلى أصول الفقه في شيء من ذلك ، وغير العارف بها لا يغنيه أصول الفقه في الإحاطة بها ، فلم يبق من أصول الفقه إلا الكلام في الإجماع ، والقياس ، والتعارض ، والاجتهاد ، وبعض الكلام في الإجماع من أصول الدين أيضا ، وبعض الكلام في القياس والتعارض مما يستقل به الفقيه ، ففائدة أصول الفقه بالذات حينئذ قليلة .

                                                      فالجواب منع ذلك ، فإن الأصوليين دققوا النظر في فهم أشياء من كلام العرب لم تصل إليها النحاة ولا اللغويون ، فإن كلام العرب متسع ، والنظر فيه متشعب ، فكتب اللغة تضبط الألفاظ ومعانيها الظاهرة دون المعاني الدقيقة التي تحتاج إلى نظر الأصولي باستقراء زائد على استقراء اللغوي .

                                                      مثاله : دلالة صيغة " افعل " على الوجوب ، و " لا تفعل " على التحريم ، وكون " كل " وأخواتها للعموم ، ونحوه مما نص هذا السؤال على كونه من اللغة لو فتشت لم تجد فيها شيئا من ذلك غالبا وكذلك في كتب النحاة في الاستثناء من أن الإخراج قبل الحكم أو بعده ، وغير ذلك من الدقائق التي تعرض لها الأصوليون وأخذوها من كلام العرب باستقراء خاص ، وأدلة خاصة لا تقتضيها صناعة النحو ، وسيمر بك منه في هذا الكتاب العجب العجاب .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية